U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

المسحة

 

 

 

 

 

أشرف الخمايسي

 

المَسْحَة

خالد منتصر أم خائب مبتسر؟

 

 

قال أبو بكر الصديق: أينقص الدين وأنا حي!

 

 

 

إن الكتب المقدسة ليست من كتب العلوم، إلا أنها تمس المبادئ الأساسية للعلوم وتشير إليها.

رسل لويل مكسنر

 

 

 

مقدمة

 

كنت بصدد التعاقد على نشر روايتي "خروف وكلب" مع دار نشر مقرها بالأسكندرية وقتها، فضيَّفني الناشر ثلاثة أيام بفندق تيوليب المطل على البحر، يفصل بينهما كورنيش واسع يتمدد كثعبان أسطوري.

في اليوم الأخير استضاف الناشر كاتبة الأطفال الأستاذة سماح أبو بكر عزت لتوقيع عقد طباعة ونشر أحد أعمالها. ولبذل المزيد من الحفاوة والأنس قام ناشرنا المضياف بالجمع بيني والأستاذة سماح على عشاء فاخر في مطعم سياحي فخم، وكانت تصطحب زوجها: خالد منتصر.

تحلقنا حول مائدة عمرت بأطايب البحر وفواكهه، وأشكال من السلطات الملونة، وأصناف من الخبز البلدي والإفرنجي. وكان خالد منتصر قد تلقاني ببشاشة وترحاب صادقَين، فتهاوى السور الذي أشيده بأسرع مما ينشر القنفد شوكه حال لقائي بأحد المشاهير.

تناولنا طعامنا بانسجام ونحن نتبادل الفكاهات الظريفة والقفشات المضحكة.

بدت سماح، وهي ابنة الممثل المصري الرائع الراحل أبو بكر عزت، مشبَّعة برقة الأطفال لدرجة أن صارت ملامح وجهها أقرب ما تكون لملامح وجه طفلة.

وبروح الطفلة الودود تقبلت دعاباتي الصعيدية السَّمجة، وخالد منتصر يضحك بأريحية.

في تلك الأثناء لم يتطرق حديثنا إلى المنطقة الملتهبة التي يعمل خالد فيها بحماس؛ أقصد منطقة الدين وعلاقته الجدلية بالعلم، وكل ما يحيط بهذه المنطقة من مجالات الأقوال والأفعال التي ينسبها خالد إلى من يصفهم بالتيار الديني ـ الإسلامي طبعا ـ التيار الذي تحكم في الشعب المصري المتحضر بتاريخه الفرعوني القديم، فأصابه بالتخلف جراء غزو صحراوي بدوي قبل 1400 سنة، فاحتل مصر بزعم الفتح الإسلامي.

وكانت تلك المرة هي المرة الأولى التي ألتقي فيها السيد خالد منتصر.

أنهينا عشاءنا سريعا. فقد أخبرنا الرجل بأنه يعاني إجهادا بالغا بسبب قيادة سيارته من الإسماعيلية إلى الإسكندرية لخمس ساعات متواصلة. وسيسوق مثلها غدا.  

قبل مغادرة المطعم والعودة إلى الفندق حرص ناشرنا المضياف على توثيق اللحظة بالتقاط بعض الصور التذكارية.

والحق أنني سعدت جدا بذلك اللقاء، الذي أقل ما يوصف به أنه رائع.

في صباح الغد التقينا للمرة الثانية مصادفة، وكانت في مطعم الفندق، ونحن نتخير أطعمة فطورنا من البوفيه المفتوح. تبادلنا التحيات الدافئة. وعرفت منهما أنهما سيغادران فور تناول وجبتيهما عائدين إلى الإسماعيلية، فتبادلنا الأمنيات الحارة بقضاء الأوقات الممتعة مع السفر الآمن والوصول بالسلامة.

حدث ذلك في الأسبوع الأخير من ديسمبر سنة 2018 ميلادية.

وكنت ـ حتى ذلك التاريخ ـ لم أقرأ بعد حرفا واحدا لخالد منتصر؛ ولم أشاهد أيا من الحلقات المرئية العديدة له على الفضائيات المصرية؛ ولم أصادف أيا من منشوراته الفيسبوكية.

مع أنها صارت تصادفني كثيرا بعد ذلك! 

لم أكن أعرف عن خالد منتصر، وقتها، سوى أنه طبيب مشهور بمشاكسة التيارات الإسلامية في البرامج التلفزيونية.

ومشاكسة التيارات الإسلامية في حد ذاتها ليست مشكلة، ولا عيبا، إذا كان معظم التيارات الإسلامية بالفعل موصوما بالتخلف الفقهي، وموسوما بسذاجة فكرية لو لم يتخلص منها ستطيح به إلى مشارف ردة زمنية لا تناسب عصرا يتطلع فيه العالم إلى قفزة واسعة تجاه أزمنة المستقبل.

لا ضير في المشاكسة إذا تمت بأصول علمية وأخلاقية.

عاد خالد وسماح إلى الإسماعيلية. وعدت إلى القاهرة.

استغرقتني المشاغل؛ بيد أن أياما قليلة بالكاد انقضت حتى بدأت تظهر لي على الفيسبوك ردود أفعال بعض الأصدقاء والصديقات وقد اشتبكت اشتباكا عنيفا بمنشورات لخالد منتصر.

ردود أفعال غاضبة ومشبعة بالسخرية والاستهجان.

وكان بعض هؤلاء الأصدقاء والصديقات يقوم بمشاركة تلك المنشورات ما يمكنني من مطالعتها بدوري.

قرأت منشورا واثنين وثلاثة و.. و...

ثم كان أن سألت نفسي: مذ متى كانت منشورات الفيسبوك كافية لتكوين صورة فكرية متكاملة عن صاحبها، خاصة إذا كان من المغامرين بارتياد مناطق وعرة لا يمكن ارتيادها بدون مركبات فكرية مُعدَّة ومُجهَّزة لهذه المهام؟!

بحثت في الإنترنت عن مقالات لخالد منتصر، فوجدت المئات منها. وقرأت العشرات. لكن هل المقالات وحدها كافية إذا كان بعضها يشبه بعضا؟!

بحثت عما إن كان له كتب؛ فوجدت عشرة. قرأت منها اثنين: "وهم الإعجاز العلمي". و"فوبيا العلم".

وبينما أقرأ مخرجات خالد المتنوعة تشتد الحرب الضروس بينه وبين الفيسبوكيين الأعداء وتستعر. يشتد أوارها. وبدا لي أن الطبيب سعيد للغاية بهياج هؤلاء، الذين كانوا بدورهم ـ رغم الآلام ـ سعداء بخوضهم حربا لصالح الدين الإسلامي والهوية الإسلامية ورب المسلمين.

أدين (زيطة) الفيسبوكيين التي تمنح خالد منتصر انتشارا واسعا يسعى إليه، مع ذلك كلما فتحت الفيسبوك، وتصفحته، وطالعت الاشتباك، أجدني راغبا بشدة في المشاركة بكتابة منشور يسخر من كلام خالد منتصر.

وكلما هممت بذلك أتذكر عشاءنا المشترك، والعيش والسلطات وفواكه البحر الذي كان بيني وبينه في ليلة سكندرية دافئة رغم الشتاء، وأتذكر خلقه الدمث الذي غمرني به فيما نتناول طعامنا على نحيب أمواج البحر وهي تبكي قسوة الصخور ووحشة الليل، فأمسك نفسي بالعافية.

غير أنه بسقوط الماء قطرة تلو قطرة على الجرانيت يفلقه، مهما قاوم.

جاء اليوم الذي قصمت فيه قشة تافهة ظهر البعير، وفاض الكيل، لأجدني أسقط فيما سقط فيه الفيسبوكيون السذج! وكيف لا أسقط وأنا أتصفح هذا الفيسبوك المأفون كثيرا؟

وكان الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون قد حذر في كتابه "سيكلوجية الجماهير" كل عاقل من أنه إذا خالط الجماهير ـ ومعظمها طائش ـ سيفعل مثلها.

لكن (لا يمنع حذر من قدر).

وعليه كتبت منشورا تناولت فيه خالد منتصر بسخرية لاذعة.

وبينما أتابع تعليقات الأصدقاء والصديقات على منشوري أخذت أفكر في جدواه، فأجدني لم أفعل سوى أنني أضفت إلى الفضاء الأزرق منشورا كغيره من مئات آلاف المنشورات، مجرد صيحة رعناء انطلقت في زفيف من مئات آلاف الصيحات الشبيهة.

حزنت. وكدت أغتم؛ لولا أن لفت انتباهي إشعار الرسائل برسالة من الصديقة سماح أبو بكر عزت. فتوقعت موضوع الرسالة، إنه المنشور الساخر من زوجها.

وصدق توقعي.

لم تكن سماح نشطة على الفيسبوك، هي فقط بين حين وآخر تشارك أصدقاءها بمنشور يلفت انتباههم إلى أحد إنجازاتها الخاصة بالكتابة للطفل. لذلك لم أكن أفطن لوجودها في قائمة الأصدقاء عندما كتبت منشوري اللاذع. وربما لو فطنت لذلك ما كتبته مراعاة لمشاعرها.

فتحت رسالتها، فوجدت عتابا رقيقا مهذبا. دار على إثره حوار قصير أخبرتني خلاله بأن خالدا لم يقرأ منشوري، بعد لأنه في رحلة خارج البلاد؛ وقبل أن تطلب مني حذف المنشور وعدتها بحذفه على أن تخبر الدكتور خالد بأن طريقة معالجته لقضيته ليست على ما يرام، بل مستفزة لدرجة تجعل العلاج الشافي سما قاتلا.

وعدتني بأنها ستفعل.

وحذفتُ المنشور.

وذهب حزني. فمنشوري لم يعد صرخة ضائعة في تسونامي صرخات.

لكن؛ من أدراني أن سماح ستخبر زوجها بما وعدتني به؟ ومن أدراني إذا أخبرته إن كان سيعير ملاحظتي أهمية؟

أيا كان الأمر؛ كتب خالد منتصر منشورا جديدا مستفزا بعد أسبوعين، أو ثلاثة، فأعدت الكرة بمنشور أشد سخرية ولذعا، حتى أن سماح لم تطق معه صبرا، فانفعلت لدرجة جعلتها تتخبط في اتخاذ قرار بشأني؛ إذ سرعان ما وجدت إشعار الرسائل يفيدني بوصول رسالة من الصديقة سماح أبو بكر عزت، دخلت لأفتح الرسالة، فوجدتها محذوفة.

ولم تمر دقائق إلا وكانت قد حظرت حسابي.

ولم أحزن. لأن منشوري الثاني لم يضع هباء بدوره. لقد أصاب كبد الهدف.

لكني اندهشت.

ووجه الاندهاش هو التضاد بين ما يحض عليه المثقفون من حرية الرأي والتعبير وبين ما يأتونه من أفعال متسلطة وديكتاتورية.

المثقف المتقمص روح أرسطو الحر ـ مثلا ـ إذا ما ووجه بمأزق فكري، أو أخلاقي، يستبدل روح أرسطو بروح ستالين! فيضرب بمنهاج الحرية أقرب جدار صلد.

تناقض كاشف لادعائية المثقف العربي وزيفه. الزيف الذي هو السبب الرئيس في أنهم لم يكونوا يوما مؤثرين مجتمعيا.   

تذكرت العشاء السكندري الذي جمع ثلاثتنا؛ كانت سماح منطلقة بما يليق بكاتبة حرة. متألقة بما يوافق مثقفة تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة، وأن شخصها بالضرورة منفصل تمام الانفصال عن شخص خالد، وإذا كان الأخير يلقي بمهاتراته على عموم الجماهير فالقضية عامة، وليست خاصة.

فهم ثقافي يوجب على سماح أبو بكر عزت ألا تزج بنفسها كـ(زوجة) في شأن عام يخص خالد منتصر. إلا أنها نسيت مبادئ شخصيتها المثقفة الكاتبة، وتذكرت أنها زوجة محبة بصدد منشور يهين (زوجها) الحبيب! لتحيل بعاطفتها الأنثوية الجياشة بروتوكول النسويين والنسويات إلى هباء منثور.

ومع أن تصرف سماح أدهشني مع ذلك لم يخرج عن إطار التوقع، فقد فعلت ما تمليه عليها طبيعتها كمثقفة عربية متناقضة، مشتتة بين جمال الحِكَم والفلسفات والأقوال وبين سوء التصرفات والأعمال والأفعال.

وربما محاولة الكشف عن الطبيعة المشوهة للمثقف العربي هو ما دفع بي، مؤخرا، لكتابة هذه الكتب التي أتناول بها بعض المثقفين المصريين "التنويريين!"، بدأتها بـ"زيتونة زيدان"، الذي أمطت به الستار عن حقيقة يوسف زيدان كمفكر مزعوم؛ وها أنا أثني بـ"المَسحة"، استطلع بها مدى صحية الحالة الفكرية للطبيب "المفكر!" خالد منتصر.

فالحمد لله الأول والآخر أولا وأخيرا، حمدا يملأ السماء، ويملأ الأرض، ويملأ ما بينهما، ويملأ ما شاء من شيء بعد. أسأله التوفيق كله. وأن يجنبنا الخذلان والخسران يوم خراب العمران. إنه نعم المولى ونعم المجيب.

 

أشرف الخمايسي

القاهرة في 25 يولية 2020م

 

 

 

 

 

 

بانوراما

 

 

 

 

من هو؟

 

في الحلقة المؤرَّخة بيوم 21 ديسمبر 2016م من برنامج "كل يوم"، والتي قدمها الإعلامي عمرو أديب على إحدى الفضائيات المصرية؛ وفي تقرير قصير، بصوت أنثوي رقيق، قُدِّم خالد منتصر للمشاهدين باعتباره طبيب وإعلامي وكاتب صحافي، ما أن تخرج حتى قام بتحويل أفكاره، وتكريس حياته، لتكون غرفة عمليات كبيرة، يحاول فيها علاج آفات المجتمع.

واصلت ذات الصوت الرقيق:

يعمل طبيب جلدية وتناسلية. قدم عددا وفقرات من البرامج الطبية. محاربة الجهل في مقدمة أولوياته. ويحاول ذلك بتقديم منهج علمي جميل وبسيط للمساعدة على خلق مجتمع يدرك أهمية العلم. يعد أحد أهم رواد العالم العلمي والطبي في مصر. خاض عشرات المعارك ضد المتأسلمين، وكل من يستغل الدين، لتحقيق أهداف شخصية. له مؤلفات علمية وروائية. حمل هم العلم والتنوير في مقالاته. ويرى أن ما أصاب المجتمع العربي هو داء الجهل. وأن انتشار الجهل هو مكسب و"بزنس" لكتير من المنتفعين.

وعلى موقع الإعلامي الطبيب خالد منتصر كلمة للأستاذة نوال مصطفى ـ كانت رئيس تحرير كتاب اليوم ـ تقول فيها:

خالد منتصر واحد ممن حملوا منابر العلم في وجه غول الجهل، محاولا أن يضرب بمعوله على كل جذور الخرافة التي بدأت تنخر في عظام المجتمع.

وعلى نفس الموقع كلمة حماسية للشاعر الراحل فاروق شوشة بتاريخ 11 يناير 2009م يقول فيها:

خالد منتصر الذي أصبح بعد سنوات قليلة من التخرج في كلية الطب واحدا من صناع الاعلام العلمي في الفضائيات‏، ومن خلال كتاباته ومعاركه المحركة والمؤثرة‏، واحدا من كتاب القصة القصيرة الموهوبين والنادرين، وصناع التحقيقات العلمية الجريئة والمقتحمة‏، وكاتبا ومعدا إذاعيا يبهر بمادته الجديدة، ومداخله المغايرة، ودعوته الدائبة الي الاستنارة‏،‏ وأخيرا من خلال إطلالته علينا علي الشاشة الصغيرة محاورا ومناقشا ومشاركا بالوعي والتوجيه والتصحيح، والإضافة لكل مايعرض له في برامجه الناجحة والمدهشة‏.

بهذه الاعتبارات، والمواصفات، والتزكيات، قُدِّم الطبيب خالد منتصر للمشاهدين والقراء.

فهل هي اعتبارات، ومواصفات، وتزكيات، قائمة على ركائز حقيقية مدعومة بالجدة والصحة، أم أنها مزورة، اصطُنِعت اصطناعا لزوم (الشو) الإعلامي المطلوب توظيفه لخدمة أهداف محددة؟

يمكننا تقديم إجابة سريعة تفي بالغرض لو أن غرضنا هو مجرد مشاكسة خالد منتصر بسخرية لاذعة (على الماشي)، لكنا هنا لسنا بصدد كتابة منشور فيسبوكي، وإنما بصدد إنشاء كتاب.

ولإنشاء الكتاب ـ أي كتاب ـ أصول مرعية، وقداسة موحية، يلزم معهما العمل بتؤدة ورصانة. خصوصا وأن كتابي هذا ليس موجها لخالد منتصر كي ينتبه فيعدل المسار، فربما المسار المعدول ـ من وجهة نظره ـ هو مساره الذي يمضي فيه حاليا، باعتباره المسار الذي يحقق طموحاته، ويلبي حاجاته. بل أوجه هذا الكتاب إلى القراء الحيارى بأمر خالد منتصر، ويتساءلون: أهو مفكر حقيقي يسعى إلى تنوير حقيقي، من أجل بناء وطن حقيقي، أم أنه طبيب إعلامي (وصنايعي تفكير أرزقي على باب الله) يتعايش على سبوبة وافرة المكاسب أشبه بدجاجة تبيض ذهبا وياقوتا ومرجانا؟

دجاجة تبيض "بزنس"!

وللحصول على إجابات، فإنني ملزم باستخدام ذات المنهج الذي يدعو إليه الطبيب خالد منتصر نفسه، ويرفعه قميص عثمان في محافل الفضائيات، ويغرسه قرآن تحكيم بسنان مناظراته (الفكرية!).

نقصد: المنهج العلمي.

سأحاول ـ بهذا المنهج العلمي ـ تحليل جميع ما نُسِب لخالد منتصر من اعتبارات، ومواصفات، وتزكيات، تحليلا دقيقا، بدراسة جادة تتناول جميع مخرجات الرجل الإعلامية والأدبية والفكرية.

وإذا كان يحلو للطبيب خالد منتصر، في كل لقاء تلفزيوني، وكذلك في كل كتاب يكتبه، وصف العلم بأنه القابل للتكذيب، فلنا مبدئيا تكذيب كل ما أُثبِت لخالد من اعتبارات، ومواصفات، وتزكيات، إلى أن ننظر في الأدلة نظرة فاحصة، مدققة، لنرى إن كانت أدلة إثبات، أم أدلة تزوير.

وفي زمان كورونا (كوفيد 19) نعرف سلامة المرء من عدمه بإجراء (مسحة) له.

وهذا الكتاب الذي بين أيديكم ـ أيها القراء والقارئات الأعزاء والعزيزات ـ هو مسحة ستبين لنا إن كان الطبيب خالد منتصر مفكرا(ملو هدومه) حقا، أم فقاعة صابون تطير، وتعلو، وهي تبرق بفراغها، ثم لا مصير لها غير الانفقاء والتلاشي؟

وبينما أكتب هذا الكتاب حدث أن هاتفني أحد أصدقائي الأعزاء ـ  وهو يعاني من ثقل لسان شديد يضطره إلى مخارج حروف مرتبكة ما يكون معه نطق الكلمات مختلفا عن النطق الذي نعرفه لها ـ  وسألني عن جديدي، فأخبرته بأنني أعد كتابا عن خالد منتصر. فتساءل متبرما:

ـ خائب مبتسر!

انتبهت متعجبا للمنطوق الجديد الذي حول معنى اسم خالد منتصر إلى النقيض تماما. من فخامة اسم الصحابي الجليل، وسيف الله المسلول، خالد بن الوليد، وعظمة انتصاراته، إلى دناءة الخيبة وذل النقصان!

على ما سبق، فإن مسحتنا ستكشف عما إن كان صاحبنا هو خالد منتصر، أم خائب مبتسر.

 

 

 

غرفة العمليات

 

وغرفة العمليات المقصودة بالعنوان أعلاه ليست التي قد تتبادر إلى ذهن القارئ فور قراءته لهذا العنوان؛ إنها ليست غرفة يجري فيها خالد منتصر عمليات طبية، أو تجميلية، بصفته طبيب أمراض جلدية. بل كما وصفتها المذيعة في تقريرها الإعلامي المشار إليه سابقا: (غرفة كبيرة يحاول فيها علاج آفات المجتمع).

ولن نبذل كثير جهد في محاولة التعرف على ماهية العلاقة بين الأمراض الجلدية وبين آفات المجتمع التي زينت للرجل تحويل نشاط غرفة عملياته إلى علاج أمراض لا تقع في مجال تخصصه؛ لكن يبدوا أن ظهور أعراض فكرية متمردة على الأصوليين الإسلاميين، مع تمتعه بلهجة خطاب قاسية تتسم بالسخرية منهم، كان كافيا لأن يمنحه بعض المؤثرين من النخبة المصرية المثقفة المتنورة صفة (مفكر)، ليضيفها خالد منتصر إلى هويته الطبية بامتنان. إذ أن صفة (مفكر) هي المؤهل العالي الذي سيسمح له بتغيير نشاط غرفة عملياته من طبي إلى فكري. وهو من الذكاء بحيث يفهم أن عائد غرفة عمليات تعالج آفات المجتمع، من المكاسب الأدبية والمادية، أكبر بكثير من عائد غرفة عمليات تعالج الأمراض الجلدية.

غرفة عمليات فكرية (ذات اتجاهات خاصة) هي في واقع الأمر (بزنس) كبير.

مع ذلك دعونا نُحمِّل طوياتنا بحسن النية، وألا نسيء الظن، ولنلقي نظرة على غرفة عمليات (المفكر) خالد منتصر، ولنرى إن كانت بالفعل مهيأة للقيام بمهمتها الجديدة، وإن كان المعالج بالفعل يمتلك مقومات علاج هذه النوعية من الآفات.

لكن علينا الحذر من أن تسوقنا طوياتنا، المحملة بالنوايا الطيبة وظنوننا الحسنة، إلى السذاجة والعبط، بحيث لا نسأل هذا السؤال التالي:

ما هي آفات المجتمع المصري إذا كانت غرفة عمليات (المفكر) خالد منتصر لم تعلن قصر نشاطها على علاج آفة واحدة، أو آفتين، أو بضع آفات؟    

 

 

 

 

آفات المجتمع المصري

 

لم تزل مصر على قدمها التاريخي، وقيمتها الحضارية الكبيرة، كأول مجتمع عرف النظام والقوانين والدولة، وآمن بالآلهة، وثمن الأخلاق غاليا، تعاني من آفات مجتمعية بالغة الخطورة، تتنوع بين ما هو أخلاقي، واقتصادي، وسياسي، وديني؛ وبُذِلت محاولات جادة، من بعض المثقفين والمفكرين المحترمين، في محاولة من أجل التوصل إلى الجحر الذي تتوطن فيه هذه الآفات، وتنطلق منه لتنفذ دورها الضار بالمجتمع المصري.

بعض المفكرين قال إن (الفقر) هو هذا الجحر الخبيث.

وبعضهم قال إنه (الجهل).

وآخرون قالوا إنه (الفساد).

القائلون بالفقر يرون أنه أساس الجهل والفساد.

والقائلون بالجهل يرون أنه أساس الفساد والفقر.

والقائلون بالفساد يرون أنه سبب الفقر والجهل.

وأنا أقول إن المجتمع المصري لا يعاني من جحر آفات واحد؛ بل من ثلاثة جحور: الفقر، والجهل، والفساد.

فكل جحر منها يأوي العديد من الآفات الأخرى. ومنها آفات تتميز بقدرتها على الكمون في الجحور الثلاثة مجتمعة.

وقد قرأت مقالا رائعا للسيناريست الأستاذ وحيد حامد منشورا بجريدة "المصري اليوم" يذكر فيه آفات أربعة يعاني منها المجتمع المصري: الغباء، والخوف، والفساد، والعناد.

وغير وحيد حامد رأى أن المجتمع المصري يعاني من آفات الانتهازية، والفئوية، والعنصرية.

وأنا أظن أن جميع تلك الآفات المذكورة هي مخرجات الجحور الثلاثة الرئيسة.

فالفقر أصل الخوف والانتهازية.

والجهل أصل الغباء والعناد والعنصرية.

والفساد العام أصل الفئوية وكل صفة قبيحة.

وأنا لا أزعم أنني مفكر يملك غرفة عمليات يعالج فيها آفات المجتمع معالجة تحتاج دراسة متانية وعميقة للأسباب التي أدت بالعمران المصري ـ المشهور بالمعابد الهائلة، والأهرامات الرائعة، والمسلات السامقة، والمنشآت الإسلامية الفارقة من مساجد ووكالات وخانقاهات وقلاع ـ إلى الانتهاء بخراب تنتشر فيه الجحور.

من يزعم أن لديه مثل هذه الغرفة هو الطبيب خالد منتصر.

وعليه فهو المطالب بتقديم كشف بيان حول صحة هذا الزعم، لا أنا.

وإذا كان مؤكدا أنه لن يهتم بهذا الطلب، فعلينا الحصول على مستهدفنا بطريقة أخرى، وذلك لحقنا المشروع في التعرف على الهوية الحقيقية لرجل شهير، قادر بصدقه، أو كذبه، على تحقيق نفع كبير، أو ضرر خطير، بلحمة وطننا المصري.

 

 

 

في غرفة العمليات

 

 

خيبة بالويبة

 

والخيبة ليست خيبة خالد منتصر!

"أومال" خيبة من؟

خيبة أملي طبعا.

وأحكي لك.

دخلت غرفة عمليات الطبيب والمفكر خالد منتصر التي يعكف فيها على معالجة آفات المجتمع وأنا أظنها مجرد غرفة واحدة، فإذا بها عبارة عن جناح واسع من "شوية" غرف.

غرفة لتدبيج المقالات، وأخرى لكتابة الكتب، وثالثة للقاءات التلفزيونية، والرابعة غرفة صغيرة مركونة "على جنب" للمنشورات الفيسبوكية. وملحق بالغرف الأربعة "تواليت" إفرنجي آخر مودة، ومخزن محدود وُضِعت فيه مجسات تربة وآلات حفر.

أكيد سيتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ استفهام عجائبي متعلق بالعلاقة بين غرفة عمليات دكتور "مفكر" وبين مجسات التربة وآلات الحفر كما تبادر إلى ذهني.

وقد بذلت مجهودا بحثيا كبيرا ـ مشاهدة وقراءة ـ من أجل الكشف عن هذه العلاقة الشاذة الغامضة، ونجحت في ذلك، وأعدك بأنني سأخبرك بالنتيجة في الفصل والورقة المناسبين.

وزي ما دخل (على بابا) مغارة الكنوز وصاح: ذهب ياقوت مرجان، ونظر محتارا بأي أركان الأموال يبدأ، دخلت جناح عمليات الطبيب خالد منتصر لمعالجة آفات المجتمع، وصحت: منشورات فيسبوك مقالات كتب وفيديوهات. أحمدك يا رب. ونظرت محتارا بأي الغرف أبدأ.

غير أني لم أسلم نفسي للحيرة طويلا، فقررت أن أبدأ بنظام وترتيب، من أصغر الغرف إلى الأكبر والأكبر.

غرفة منشورات الفيسبوك المركونة "على جنب" هي أصغر الغرف.

دخلتها، وطالعت بعض ما فيها من منشورات، فوجدتها ساذجة للغاية، مجرد كتابات سريعة بلغة ركيكة وأسلوب متهافت. فكرت في أنه ربما تفاهة الغرفة وصغرها تبهت على خالد منتصر فور دخولها، فيكتب منشوراته التافهة هذه.

بعض محللي الكتابات يحرص على إبراز أهمية العلاقة بين الأجواء المحيطة بالكاتب وبين مستوى وجودة كتابته. لكني لا أميل لهذا التصور النقدي (البريء) كتفسير لركاكة وتفاهة منشورات خالد منتصر الفيسبوكية.

قرأت أن حكماء العرب الأقدمين قالوا: سوء الظن من حسن الفطن.

والمثل الشعبي المصري قال: من فات قديمه تاه.

وأنا مصري عربي. فحرضت نفسي على العمل بالمثل المصري لتنفيذ المأثور العربي كي أضخ كل ما في قلبي من سوء ظن تجاه الطبيب خالد منتصر.

هكذا بأكبر قدر من سوء الظن سألت نفسي: لماذا لا يكون خالد منتصر خبيثا بالقدر الكافي الذي يجعله يدرك أنه ـ في هذه الغرفة تحديدا ـ يكتب لجماهير فيسبوكية ليست مهيأة لاستقبال الكتابات الدسمة العميقة، ولا لتلقي الثقافة السمينة؟

هل انتبه الرجل إلى أن جماهير الفيسبوك لا تحتاج لأكثر من كلام في أي كلام يا عبدالسلام. المهم أن يكون كلاما مثيرا لدرجة تجعلهم (يزيطون ويهللون). بل ليتهم لا (يزيطون ويهللون) فقط.

ليتهم ينفجروا (زيطا وتهليلا) وصخبا وغضبا.

ليتهم يقلبون الفيسبوك رأسا على عقب.

وقد لاحظت أن وتيرة الشد والجذب بين خالد منتصر وخصومه من جماهير فيسبوك تتصاعد؛ والسبب أبعد ما يكون من أن المنشور المنتصري يتمتع بمواصفات الفكر الثوري التجديدي الصادم.

فأي فكر ـ مهما اختلف وشذ ـ يمكن التفاعل معه بدرجة من رحابة الصدر لو تم طرحه بالأصول المرعية المعروفة، من (جدية) و(رصانة) و(موضوعية) و(احترام مشاعر الآخر).

منشورات الطبيب على الفيسبوك تخلو من جميع ذلك، بحيث لا يمكن اعتبارها أكثر من رسائل مستفزة كتبت عمدا على عواهنها، جردها الكاتب من جميع الضوابط الفكرية والأخلاقية، وحملها بقدر هائل من السخرية وإهانة المُخاطَب. وجميعها مركبات خطاب لا يمكن له الزعم بتوظيف الاستفزاز كوسيلة إحياء، يسلط صدمة كهربائية عالية الفولت إلى قلب أوشك على التوقف والعطب. إذ الاستفزاز في منشورات حالد منتصر من النوع السالب للروح، المستهتر بالأصالة، الماحي للخصوصية، والفاضح بعدائية وتشفي للمثالب والعيوب.

الاستفزاز إذا زاد عن حده يتحول من وسيلة تهذيب إلى أداة تعذيب.

لكن خالد لا يحفل إن كانت استفزازته تهذب أم تعذب؛ لإنه يلعب لمقاصد أخرى.

وجماهير الفيسبوك لا تفهم اللعبة المنتصرية ولا تعي مقصدها. تماما مثلما لا تفهم ثيران الحلبات الإسبانية اللعبة التي يمارسها (الميتادور) معها، فتسارع بمهاجمته كلما استفزها بهز قماشته الحمراء أمام أنظارها المترقبة.

ومع كل هجوم للثور (الغبي) يقوم الميتادور الماكر بغرس سهامه القاتلة في جسمه، والثور يخسر حياته رويدا رويدا، والميتادور يربح التصفيق والأموال والمزيد من النجومية والمزيد من الطلب عليه.

خالد منتصر يهز منشوره الفيسبوكي بوقاحة قاصدا استفزاز الجماهير. والنتيجة مضمونة. يثورون ثورة ثيران المصارعة، يملأون الفيسبوك بما كتبه الميتادور، يتردد اسم الميتادور ملايين المرات. ومهما هاجموه فإنهم لا يتمكنون من تغيير أسلوبه ولا طريقته ولا توجهاته. فقط يخسرون الجهد والوقت؛ أما الأخطر فهو أنهم يدفعون بالأفكار الاستفزازية الهشة إلى إطار الاعتياد الصلب، بحيث تصبح الأفكار الهشة الشاذة مع الوقت واقعا غير مستفز.

ولو أن للثيران عقل يعي المراد لها وبها ما هاجمت الميتادور. فأفضل طريقة لدحر الميتادور هي عدم التجاوب مع استفزازاته المقصودة.

لو أشاحت الثيران برؤوسها بعيدا عن منشوراته الصفراء لتحول خالد منتصر على الفور إلى شيء مهمل، ما يجبر مديري اللعبة على صرف اهتمامهم وأموالهم عنه؛ وربما عن اللعبة كلها.

تخيلوا معي حسرة خالد منتصر ـ وأي ميتادور يشبهه ـ إذا قررت جماهير الفيسبوك الانصراف عن استفزازه وتركه نهبا للإهمال.

لكن جماهير الفيسبوك ستفهم ذلك عندما تفهم ثيران الحلبة الإسبانية.

وسيظل الطبيب يهز منشوراته لهم. وهم يهاجمونه. تنعرس فيهم السهام، وتعلو أسهم الميتادور الفيسبوكي. أما بعض المتفرجين  من رواد حلبة الفضاء الإلكتروني الأزرق فسيرقِّص كتفيه على أنغام موسيقى شعبية فيما يغني ساخرا: هز يا خالد هز. هز يا خالد هز.

فعلها وائل غنيم وهو يضيف ساخرا: التنوير كسِّبنا كتير.

 

 

 

 

غرفة المقالات

 

إحصاء مقالات الطبيب المفكر خالد منتصر المُدوَّنة في موقعه الإلكتروني، والمنشورة في العديد من الجرائد والمجلات المختلفة، يفيد بأنها تزيد عن الـ 500 مقالا متنوعا. منها ما يتناول شخصيات أحبها وتأثر بها. ومنها ما يتناول رؤاه الخاصة حول بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية. ومنها ما هو قراءات (عاطفية) لبعض الروايات. ومنها ما يتناول أبرز الأحداث المستجدة سواء كانت مهمة أو غير مهمة. ومنها المتناول للشؤون الطبية.

وطبعا ـ وأكيدا ـ دفعة كبيرة من هذه المقالات يصوبها نحو صدور الأصوليين المسلمين. والتنشين على هؤلاء تحديدًا مربح، إذ مع كل إصابة هدف يكسب خالد عروسة مزينة بالذهب والفضة ومختلف الأحجار الكريمة.

لكن أن يجد القارئ مقالة يتيمة (توحد الله) يمكن وضعها بثقة على منضدة تشريح آفات المجتمع المصري في غرفة عمليات الطبيب المفكر باعتبارها تتناول أساسيات التخلف المصري المعاصر الثلاثة: الفقر، والجهل، والفساد العام. فقد يتوه القارئ توهة (أخواننا البُعدا) في صحاري سيناء أربعين سنة.

أما (أخواننا البُغدا) فوجدوا ضالتهم أخيرًا، لكن القارئ لن يجدها.

هذا في الوقت الذي يمكن للقارئ أن يجد بسهولة مقالة مدبجة بطريقة المقامات المويلحية، بتاريخ الجبرتي موحية، عنوانها: "مقامات بديع الزمان الطالباني"، يناقش فيها قضية يرى الطبيب المفكر أنها من الأهمية بمكان بحيث لا مناص من وضعها تحت الدراسة والفحص على طاولة العمليات؛ نقصد تلك القضية التي فجرها الممثل يوسف الشريف بتصريحه عن الشرط الذي يحرص على إثباته في عقود أعماله التمثيلية: عدم لمس الممثلات.

وإليك عزيزي القارئ بعض ما كتبه خالد منتصر في تلك المقالة: ".. وكان الفن الصادق هو السيد قبل أن يحتل النفاق أمخاخ الأنام ويصبح تقييم الفن بالحلال والحرام، وينتقل الفن من مصدر إلهام وأنوار إلى حلقة ذكر وكودية زار، كان المتفرج قديماً فى تلك البلاد وقت أن كان الدين معاملة العباد يقيس الفن بإبداع الفنان فصار يقيسه بطول الفستان، وكان يبحث فى القصة عن الإيقاع والتجانس فصار يبحث فيها عن عدم التلامس، كان يبكى بحرقة فى قصص الحب والغرام لكنه الآن يدخل بعدها الحمام، قبل عصر الادعاء والمدعين ومرضى الازدواجية والمنافقين كانوا يفخرون بنجماتهم وكانوا أخلاقيين مع بناتهم، قبل أن تسود الطقوس والشكليات ويسود معها التحرش وتدنى الأخلاقيات...".

أيضا في الوقت الذي لن يجد القارئ مقالة مخصصة لتناول أسباب الجهل بشكل منهجي حقيقي قائم على أبجدية الفكر الصحيح، التي منها شمولية النظر والبحث في جميع معطيات المجتمع سواء كانت سياسية أوتقاليدية أودينية، سيجد بسهولة مقالة مخصصة لدراسة حالة الآنسة (مها)! البنت التي تجاوز عمرها الـ32 عاما فأعلنت عن رغبتها في الزواج عبر منصة الفيسبوك. وعنوان المقالة: "تاريخ صلاحية الآنسة فلانة".

ها هو بعض ما كتبه فيها: "... العازب فى مصر غير العانس، فالمجتمع احتفظ للرجل بدور الصياد القديم الذى كان يؤديه وقت إنسان الكهف والباحث دوماً عن الفريسة، فهو الطالب وهى المطلوبة، وهو الباحث وهى المبحوث عنها، ومن هنا فهو ليس له تاريخ صلاحية محدد مثلها، وإنما هو من السلع المعمّرة، والمهلة الممنوحة له للاختيار بطول عمره كله، ووقت أن تطق فى دماغه يقرر الجواز يتجوز، أما المسكينة ذات تاريخ الصلاحية المحدد كالبلوبيف واللانشون، والمختوم بختم المجتمع والعرف والتقاليد، فليس لها حق وترف الانتظار، فقطار الزواج توربينى لا يقف فى محطات، وعليها أن تنتظره فى الميعاد المناسب والمحطة المحددة وإلا فاتها القطار وظلت على رصيف الانتظار، وقد ضاعت عليها التذكرة وأصبحت غير قادرة حتى على التسطيح !!..".

هكذا، وعلى نفس النسج، تخيب مساعي القارئ الباحث عن مقالة للطبيب المفكر يتناول بها الفساد العام الذي ينخر عظام البلد نخر السوس لجذوع الأشجار، فيكاد يقوضها، لكنه ـ القارئ ـ سيحصل بسهولة ويسر على مقالة عصماء تناقش ما تشيعه نون النسوة في جروبات الماميز على الفيسبوك، وكيف أن شائعاتهن عن الأعداد المبالغ فيها للمصابين بكورونا قد تهدد أمن الوطن، ما يجعله يجزم بأن هذه الجروبات مخترقة بالأخوانيات الإرهابيات. المقالة عنوانها: "الماميز الباب الخلفي للإخوان".

وهذا بعض ما كتبه فيها: ".. هناك مظاهر تمر مرور الكرام على الدولة ولكنها تنخر كالسوس فى نخاع ومفاصل الوطن، على سبيل المثال دروس ما بعد صلاة العشاء للسيدات والتى تلقيها عادة داعية منقبة، وكلها تبث سموم الخرافة والكراهية للآخر والتحقير للذات والنيل من تاء التأنيث وتأثيمها حتى تتجلى شيطاناً رجيماً إغوائياً تعتبر نفسها عورة ونجاسة!! انتقلت تلك الدروس من المساجد إلى الشقق والقصور، حيث تستضيف سيدة أرستقراطية مجموعة سيدات أخوات لتلقى الدرس عبر داعية سلفى من المشاهير، تلك الممارسات وغيرها أفرزت تلك الطبقة النسوية الهستيرية سريعة التصديق للشائعة، سريعة النشر لها باستمتاع وتلذذ..".

ولي ملحوظات (ثلاثة) على المقتطفات (الثلاثة) من المقالات (الثلاثة) التي ابتعدت عن معالجة آفات (ثلاثة) تنخر في عظام مصر أم الأهرامات (الثلاثة).

 

أول ملحوظة.

تسونامي الوهابية وتأثيره في الدراما المصرية

بالنظر في المقتطف الأول، المجتزأ من مقالة  "مقامات بديع الزمان الطالباني" لكاتبها وصاحبها الطبيب خالد منتصر، نرى مقارنة "سَجيعة" بين واقعين مختلفين عاشهما فن التمثيل المصري في زمانين مختلفين. زمن ما قبل الثمانينيات، وزمن ما بعد الثمانينيات.

أي: مقارنة بين وضع السينما قبل أن يضرب التسونامي الوهابي العنيف مصر وبين وضعها بعد وقوع الكارثة.

وهي مقارنة بحد ذاتها مغلوطة. يقصد بعقدها والطنطنة حولها جر المتابعين إلى اعتقاد مفاهيم غير سوية حول الدين والمتدينين. فالمراقب الممتلك لذاكرة حديدية يتذكر جيدا أن الوسط الفني المصري لم يخل على مدى السنين ـ حتى تلك السابقة للتسونامي الوهابي ـ من ممثلين وممثلات يتحرون الاحتشام في أثناء التمثيل، ويتحفظون من أداء المشاهد الساخنة، ويخافون تبعاتها الأخلاقية لدى جماهيرهم التي تحبهم. وهكذا المشاهدون المصريون أيضا، ظلوا على مدى عقود التمثيل المصري يحترمون الطراز المحتشم من الممثلين والممثلات، رغم أنهم مشاهدون عاديون من مسلمي مصر ومسيحييها، ليست لهم أية ميول وهابية أو آريوسية.

ولي أخت تصغرني بعامين، اسمها صفاء.

اختار أبي هذا الاسم لها لا لشيء سوى أنه أحب الممثلة صفاء أبو السعود، كونها ممثلة محترمة، تؤدي أدوارا محسوبة لا خلاعة فيها.

وأجزم أن أبي منح أختي هذا الاسم قبل أن تمثل صفاء أبو السعود دورها في فيلم "عماشة في الأدغال"، ولو أنه رآها بملابس البحر العارية لكان غير اسم أختي إلى فاتن، أو إلى ماجدة، أو أي اسم ممثلة من اللواتي لا يسقطن في بئر خلاعة التمثيل.

وكان معروفا أن لبعض الممثلات ـ فاتن حمامة مثلا ـ شرط معلن، وإن لم يُكتب في العقود، مفاده عدم أداء المشهد الساخن بالسخونة التي يستلزمها الأداء الحرفي لهذا المشهد.

وكانت قبلات الممثلين للممثلات تشغل بالنا ونحن (عيال). في سبعينيات القرن الماضي. وهل هي حقيقية أم تمثيل؟

وكنا نعني بالقبلة (التمثيل) أنها القبلة التي يؤديها الممثل والممثلة وبين شفاههما لوح زجاج شفاف. ثم بطريقة ما يلحم المخرج الشفاه ببعضها فتبدو قبلة حقيقية على الشاشة.

ولأننا كنا نحب الممثلات في أدوارهن الطيبة، ونتعاطف مع المقهورات منهن في القصص المعروضة، وهكذا نحب الممثلين أيضا، ننتهي إلى إقناع أنفسنا باستحالة انحدار هؤلاء الممثلين والممثلات لدرجة تقبيل بعضهم بعضا بهذه الحرارة علانية.  

وكبرنا في التسعينيات؛ وفي يوم التقيت بصديقي الشاعر المبدع ـ المجهول للأسف الشديد ـ محمد عوض أبو دوح، وكنا عضوين بنادي الأدب في مدينة الأقصر، فقال لي إنه (زعلان) و (كمان مصدوم) لهول ما شاهده الليلة المنقضية على الشاشة من قسوة الواقع وفظاعته.

سألته بإشفاق: ما دهاك يا ابن أبي دوح!

قال: شاهدت فيلما يروي لحظات اغتصاب شابة مسكينة (في حالها) اختطفها أربعة شباب (أولاد كلب)، وتناوبوا اغتصابها أطول من ساعة بمنتهى القسوة والعنف، وكأن قلوبهم قدت من حجر، فلم يرحموا توسلاتها، ولا لانوا لاستعطافاتها، ولا تعطفوا لصرخاتها. وكان كل واحد منهم عضوه أصلب من سيخ الحديد وأطول من عود القصب.

أنا تفاجأت؛ وسارعت أسأله باندهاش عن اسم هذا الفيلم وأبطاله، وهل عرض فعلا في التلفزيون المصري! معقول؟! (طيب) في القناة الأولى، أم الثانية؟ هل يعقل أن تصل الإباحية في أفلامنا لهذه الدرجة من الفحش الغشوم، وتذاع على التلفزيون المصري الرسمي! يا أخي (قول حاجة غير كده)!

فقال مطوحا ذراعه في الهواء: يا أخي أنا أكلمك عن فيلم سكس. لكن والله العظيم الممثلة صعبت علي.

وفطست ضحكا. كان أبو دوح يتكلم بمشاعر صادقة.

ونرجع مرجوعنا، ونقول: إذا اعتبرنا تصريح أي ممثل أو ممثلة ـ يوسف الشريف مثالا ـ باشتراطه عدم لمس الجنس الآخر ردة إلى الخلف تصيب فن التمثيل المصري في مقتل، فالأمانة الفكرية تقتضي منا دراسة الأسباب الحقيقية الدافعة إلى مثل تلك التصريحات، لا الجزم الفوري القطعي بمسؤولية التسونامي الوهابي، الذي لم يكن له وجود زمن فاتن حمامة وغيرها، وإلا فإن الإصرار على توجيه التهمة للمد الديني، واعتباره المسؤول الأوحد والرئيس عن ذلك، هو محض تعريض ساذج معلوم النية، وعريان الطوية، ومكشوف اللية.

ومن الدلائل على أن المقارنة بين وضع التمثيل المصري في زمنين مختلفين مقارنة وهمية مغلوطة هو أن الدراما المصرية لم تسقط، قديما، بسبب المواقف المحافظة التي تمسك بها بعض الفنانين والفنانات، بل نجحت نجاحا كبيرا جعلها تعيش معنا حتى اليوم، لا نتلقاها نحن الشيوخ فقط بسعادة وترحيب، بل إن شباب هذا العصر يشاهدونها بحماسة واندماج، ويرون فيها فنا عظيما، محملا بقيم إنسانية حقيقية.

ثم إن ساحة التمثيل لا تزال (قاعدة بخيرها). لا تزال تحتشد بآلاف الممثلين والممثلات العاريين منهم والعاريات، المُقبِّلين منهم والمُقبِّلات، الحاضنين منهم والحاضنات، المهلسين منهم والمهلسات، فـ(ما وقفتش يعني) على ممثل، أو ممثلة، يخرج أحدهما عن هذا النص التمثيلي المشرف. إذ من المعروف أن المنظومة الأكبر هي الهاضمة والمسيطرة في النهاية. ومنظومة الفن أكبر من الممثل. فإذا حدث المستحيل وسيطر يوسف الشريف، فليس على الطبيب المفكر، الذي يضع الآفة في غرفة العمليات لدراستها واكتشاف العلاج، إلقاء اللوم على يوسف، بل الإمعان في الدراسة والتمحيص والتفحيص والتفصيص ليعرف أسباب امتلاك يوسف الشريف للقوة التي مكنته من إسقاط المنظومة الأكبر.

ثم؛ سؤال أخير في الموضوع:

لماذا يتقبل الطبيب المفكر خالد منتصر وأشباهه امتناع الممثلة فاتن حمامة عن أداء المشاهد الحميمة بهدوء وأريحية، ثم ينزعج جدا إذا أعلن يوسف الشريف امتناعه عن نفس الأمر؟

الجواب واضح وضوح شمس ظهيرة صيفية: امتناع فاتن حمامة امتناع (أخلاقي). لكن امتناع يوسف الشريف فيه (شبهة دينية). ورائحة الدين عند بعض الناس شبيهة برائحة البيروسول عند الحشرات، مزعجة حد القتل، ما أن يشم أحدها رائحة (بخة) واحدة حتى يصرخ بذبذباته الصوتية النائحة، ويطلق قوائمه الحرشفية أو الشوكية للتخبط في كل اتجاه.

لكن.

أيا كانت وجهة نظر الطبيب المفكر خالد منتصر في مشكلات التمثيل المصري المعاصر ـ إذا أمكن اعتبار تصريح يوسف الشريف أحد هذه المشاكل فعلا ـ فهو لم يقدم لنا وجهة نظره هذه باعتبارها مفردة من مفردات دراسة رصينة تتناول (الفقر) باعتباره واحدا من أخطر ثلاث آفات تهدد أمن وسلامة المجتمع المصري.

 

ثاني ملحوظة.

الحدأة لا تلقي كتاكيت.

بالنظر في المقتطف الثاني المجتزأ من مقالة خالد منتصر المعنونة بـ"تاريخ صلاحية الآنسة فلانة" سنجد أن الطبيب المفكر تعامل مع الآفة الثانية الخطيرة التي تنخر في المجتمع المصري: آفة (الجهل)؛ لا كعنصر يضعه على طاولة البحث في غرفة عملياته، وإنما كوسيلة استخدمها في كتابة مقالته هذه.

فالمفكرون قبل تناول أي موضوع بالكتابة قد يشربون فنجان قهوة لتنشيط أذهانهم، لكن خالد منتصر قبل أن يشرع في كتابة مقالته هذه ربما نزل على أربعته ونكت رأسه في دلو مملوء بالجهل، وشرب منه حتى تضلع، ثم تكرَّع المقالة.

لكن إذا كان تكرع، وقرفنا، فلا بد من معاقبته بالكشف عن بعض النقاط التي تناولها تحت تأثير شربه من دلو الجهل حتى التضلع. منها أنه عندما عقد مقارنة...

عقد مقارنة (تاني)!

أي نعم. (تاني). لكن هذه المرة بين الرجل (العازب) والمرأة (العانس)!

وقد جهل الطبيب المفكر أن (العزوبة) حال تلحق بالرجل والمراة على السواء.

فالرجل الذي لم يتزوج يوصف بـ(الأعزب)، والمرأة التي لم تتزوج توصف بـ(العزباء).

كما جهل أن (العنوسة) حال تلحق بالرجل والمرأة على السواء أيضا.

فالرجل الذي أسن ولم يتزوج (عانس)، والمرأة التي طالت عزوبيتها ولم تتزوج (عانس).

ولجهله بمعاني مفردات اللغة التي يكتب بها وصف الرجل الذي فاته سن الزواج بـ(العازب)، والمرأة صاحبة نفس الظرف بـ(العانس).

ثم جهل القيام بالمناورة الصحيحة اللازمة لمقارنة دقيقة بين وضع الرجل والمرأة (العانسين) في المجتمع المصري خصوصا، والمجتمع العربي عموما، فماذا كانت نتيجة جهلة بهذه المناورة؟

اعتبر عنوسة الرجل ترفا وعنجهية متأصلان فيه بعوامل وراثية تنتمي إلى روح الصياد القديم، الذي يتربص صابرا بين جذوع الأشجار السامقة، وقد نصب الفخاخ لفريسته المسكينة. والفريسة المعاصرة ليست غزالة، ولا ظبي، ولا حتى أرنب.

إنها المرأة المسكينة القاعدة في بيت أبيها تنتظر أن يلتفت إليها الصياد، فيصيدها!

وكأن الطبيب المفكر يكتب مقالته هذه على إضاءة لهب لمبة عويل تتغذى بالكيروسين زمان الخمسينيات! لا يكتبها في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، حيث اكتمل خروج المرأة من بيتها اكتمالا تاما، والقاعدة في البيت ليست منقطعة عن العالم، بل تتواصل معه بثلاث وسائل إلكترونية مؤكدة: اتصالات هاتفية. ماسنجر. واتسآب. لا فرق في هذا بين فتاة المدينة وفتاة القرية. وصارت البنت تختار صيادها! وصار الصياد يتربص بظروفه السيئة التي تعطله عن الزواج. غلاء، وقلة دخل، ومسلك حكومي اقتصادي يراكم الفقر على البلاد طبقة فوق طبقة. والشاب الراغب في الزواج يختنق تحت الركام المجتمعي الزائف الذي لا يرحم العين البصيرة المُلحقة بجسم إيده قصيرة، فتمر السنون على الشاب المسكين ويعنس.

وإذا عنس الشباب عنست الفتيات بالضرورة.

ها نحن نرى أن عنجهية الصياد القديم ـ إذا شئنا الموضوعية لا الهذلية ـ  أبعد من أن تكون سببا لعنوسة المرأة.

على هذا كان على الطبيب المفكر، العاكف على علاج آفات المجتمع في غرفة عملياته، الإشارة إلى الأسباب الحقيقية، ومن ثم تقديم روشتة تشمل أنواع الدواء.

لكن كيف يفعل ذلك وهو يعلم تماما أن التناول الجاد للمشكلة قد يضعه وجها لوجه مع حكومة تأتمر بأمر نظام حكم لا يتحمل اتهامه بأي شبهة تقاعس، ما قد يعرضه لسيف المعز من جهة، وخسارة ذهبه من جهة أخرى.

وقد نسأل مع المتسائلين: لماذا يتعلق معظم النخبويين المثقفين التنويريين المصريين، والعرب، بمظلومية المرأة دون النظر إلى مظلومية الرجل؟

فنضطر إلى اعتناق الإجابة الوحيدة المنطقية لهذا السؤال الملغز: (مظلومية المرأة) باب واسع للارتزاق.

أو كما يحلو للطبيب المفكر خالد منتصر وصف مثل هذه النوعية من التكسب على قفا العقائد والأديديولوجيات: إنه (البزنس).  

هكذا سطع جهل خالد منتصر. ومن غير المنطقي توقع أن يقوم الجاهل بمناقشة أسباب الجهل فضلا عن إيجاد علاج له.

 

ثالث ملحوظة.

دكتور ومفكر على درجة مخبر أمن دولة.

بالنظر في المقتطف الثالث المجتزأ من مقالة الطبيب المفكر المعنونة بـ"الماميز الباب الخلفي للإخوان" يتجلى للقارئ كم هو خالد منتصر مغالط كبير يلوى المعطيات ليا شنيعا من أجل أن تتفق عنوة مع ما يرسخه في أذهان قراء المقالة، لكن شاء الله ـ أو شاءت الطبيعة ـ استحالة اتفاق المُعنَّيات، ما يكون نتيجته فضحا واضحا للمغالطة ومبتدع المغالطة، فيظهر جهله، ويقر فشله.

وأول ما نلاحظه في أول هذا المقتطف هو الرغبة العارمة لدى خالد منتصر في أن يعمل مرشدا لجهاز أمن الدولة. فها هو يلفت انتباهها إلى جريمة خطيرة تنخر في نخاع الوطن ومفاصله كالسوس.

وأجزم أن الأجهزة الأمنية للدولة لن تستفيد شيئا بتوظيف خالد منتصر مرشدا لأحدها، بل ربما تخسر. لأنه مرشد (خائب)، والدليل هو محاولة لفت انتباه الدولة إلى أمر هي منتبهة إليه فعلا، وبكامل أجهزة استشعارها، إذ مذ متى أمكن للعمل الدعوي (الإسلامي والمسيحي على حد سواء) ممارسة أنشطته بعيدا عن العيون الخفية لصقور أجهزة الدولة الأمنية!

ثم نلاحظ أيضا عدم فهمه لطبيعة العمل الدعوي النسوي.

لكن متى يفهم الطبيب المفكر خالد منتصر طبيعة هذا العمل إذا كانت معلوماته عنه مستقاة من منابع كدرة، ليست نقية ولا صافية، مثل الصحافة المطبوعة على تهويل الأحداث لجذب أكبر عدد من القراء وتحقيق أعلى ربحية من تسويق الإعلانات؛ أو من المسلسلات والأفلام التي يصور كاتب أحداثها تيارا دينيا إسلاميا نابعا من خياله، لا من معايشة حقيقية له؛ أو من مصادر أخرى غالبا ما تكون موظفة لتحقيق أغراض ومقاصد سياسية محلية ودولية منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تخليق الدواعش وغيرها من التنظيمات التكفيرية القائمة على العنف.  

فها هو يصف المرأة المسلمة الداعية على غير حقيقتها.

وأنا أعرف حقيقتها.

لا أعرفها من صحافة، أو إعلام، أو كتب، أو أفلام، وإنما بمعايشة حقيقية للواقع الذي تعمل فيه مثل هذه المرأة. لقد عشت سلفيا ثماني سنوات، وهي السنين التي تلت اعتزالي للساحة الأدبية سنة 2000 م. وتدرجت في السلفية إلى أن صرت أؤم المصلين، وأخطب الجُمَع، وأفتي أحيانا، وقد انضممت لجماعة (التبليغ والدعوة)، وأعضاؤها سلفيون من الصنف (الكيوت) الطيب، لا يتكلمون في سياسة، ولا اقتصاد، ولا زراعة، ولا صناعة، ولا طب، ولا تعليم؛ لا هم لهم سوى دعوة (المسلمين) لاكتشاف دينهم من جديد عبر العودة إلى المساجد، وصلاة الجماعة، ومذاكرة كتاب "رياض الصالحين" للإمام النووي. وفي سبيل الدعوة يأخذ السلفي التبليغي بقجته فيها بطانيته، ووسادته، وفوطته، وبعض ملابسه، ويخرج في سبيل الله إلى القرى والمدن المنتشرة في ربوع مصر، وربما وسَّع نشاطه الدعوي إلى القرى والمدن في ربوع دول وإمارات وممالك الوطن العربي، وقد يتفجر نشاطه فينطلق إلى ربوع أفريقيا المأهولة وغير المأهولة.

نختصر الكلام، ونقول: السلفي الدعوي التبليغي يخرج إلى ربوع العالم بأسره.

أقول قولي هذا بدون مبالغة مني أو شطط. لكن هذا هو حال رجال (الدعوة والتبليغ). أما (الأخت) من نساء الدعوة فملتزمة بـ(ما أمرها الله به) بما تفهم أنه فقه الصحابة الأُوَل وتابعيهم بإحسان من الأئمة الصالحين، تسبغ على جسمها الجلباب، وتضع على وجهها النقاب طاعة لله.

وطاعة الله بمفهوم الرجل السلفي، والمرأة السلفية، تعني التحرر من عبودية البشر؛ فإذا احتاجا سألا الله لا البشر. وإذا فرحا شكرا الله لا البشر. وإذا ألم بهما مكروه صبرا لله لا للبشر. والله ليس وثنا على منصة له خوار، ولا صنما مجسدا، ليس مادة لها كتلة. وإنما هو خفاء في غيب العماء، كأنه أراد ألا يكون منظورا حتى لا يصير قيدا، بل ليكون حرية، ويكون الراغبون فيه هم الأحرار حقا.

ولم يناد الله في القرآن المؤمنين بـ(يا عبيدي) قط، بل دائما ما كرمهم بالنداء: (يا عبادي). وشتان الفرق بين (العبيد) و(العباد). إذ في الوقت الذي ليس على العبد إلا الطاعة العمياء، فإن على العابد الفهم، والمناقشة، والتأمل، والتفكر.

العبد مأمور بالخدمة، والعابد ضيف الله المُكرَّم.

وكان لعبدالله بن عباس ـ رضي الله عنه وعن أبيه ـ تفسير جليل لكلمة (العبادة).

قال: تعني (المعرفة).

على هذا فإن الرجل السلفي، والمرأة السلفية، ليسا بالهوان والصغار اللذين يتعمد الطبيب المفكر خالد منتصر وأشباهه تصويرهما عليه. بل أجزم من خلال تجربتي الخاصة في الأصولية السلفية أن المرأة ـ فضلا عن الرجل ـ أثبت انفاعليا، وأقوى نفسيا، بصدد الملمات، أفراحا كانت أم أحزانا، ألف مرة من خالد منتصر نفسه. لأن يقينها بـ(الله وحده) كافيا ومدافعا وناصرا، بينما يقين الطبيب بـ(البزنس وحده) كافيا ومدافعا وناصرا.

وليس الرغبة في التجني على خالد هي أصل تقريري هذا، وإنما فهم الرجل نفسه للأمور، فهو يعتبر الله (بالمنطق العلمي) شيئا عاطفيا لا يعتد به حتى تثبته النظريات القائمة على التجربة. أما (البزنس) فهو شيء مادي ملموس ومجرب، وله سبل إذا طرقت فاضت المؤتمرات والدولارات من كل حدب وصوب، وله سبل أخرى إذا طرقت انتهت بسالكها إلى (خواء الجيب)، و(فراغ الثلاجة)، ومهما كانت الطرق الأخيرة قادرة على تعويض سالكها عن الفقر بالعزة والكرامة، فإن عشاق البزنس يفرطون في شرفهم وكرامتهم ولا يفرطون فيه.

والأخت المنتقبة لا تبث سموم الخرافة.

فما يعتبره الطبيب المفكر خالد منتصر خرافة هو دين عظيم بالنسبة لها، والشق الأكبر من الدين قائم على الغيب، لذلك فإن التصديق بالغيب أصل من أصول الإيمان، لا يكمل إيمان المرء، أو المرأة، إلا به.

والأخت المنتقبة لا تبث سموم كراهية الآخر. لكنها تؤمن بأن الـ(آخر) لن يكون (آخر) إلا إذا كان يؤمن بمعتقد (آخر).

وعقيدتها تصف هذا الآخر بما يُظهِر لها من معاييره العقائدية، إن كان يؤمن بدين سماوي له كتاب مقدس فهو كتابي، وإن كان على غير ذلك فهو كافر، أو وثني، أو ملحد. والتوصيف ليس بثا للكراهية، وإنما تحديد للأطر، تماما مثلما يعتبر (المصري) أن (الأمريكي) شخص آخر. لكن المصري لن يبث الكراهية تجاه الأمريكي لمجرد أنه أمريكي، لكن سيفعل لو قام الأمريكي بالاعتداء على مصر، أو أهان كرامة المصري.

والمنتقبة لا تُحقِّر ذاتها، ولا تنال من تاء التانيث، ولا تظن في نفسها أنها شيطان إغوائي رجيم، وإن اعتبرت نفسها عورة فليس ذلك لأنها نجسة، أو وسخة، بل تذهب المرأة المسلمة الملتزمة إلى النقاب إعلاء بنفسها إلى ما يحب الله ـ حسب ما فهمت من تفسير علماء الدين ـ فالمنتقبات يُعرَفن فلا يؤذَين. هكذا تنزه نفسها عن الأذى بنقابها. فإذا قيل إن المنتقبات لا يسلمن بدورهن من أذى المتحرشين نقول إن نسبة المتأذيات منهن أقل من أن تقارن بنسبة المتأذيات من غير المنتقبات، فلا يؤذي المنتقبات إلا العتل الأثيم، فيما يأذي غيرهم كل من هب ودب بالغلاسة غشيم.

وتعتز المنتقبة بتاء تأنيثها، وتعرف أن تاء تأنيثها لها دور عظيم في تنشئة الرجال العظماء، الذين تقوم على أكتافهم أسس الدين والدنيا، فتجدها بتاء تأنيثها تدلل رجلها في جميع اطواره: أبا، وزوجا، وطفلا. تطيعه حبا، وتحبه طوعا. وتعشقه عشقا، وهو يتقرب إلى الله بمحبتها، وكيف أن الله أعزها حتى أنه جعل أعظم إثابة منه، جل وعلا، للرجل المتزوج هي الإثابة مقابل اللقمة يضعها في فِيْ زوجته.

وتعلم أن تاء تأنيثها رفيعة درجة أن الله وضع تحت قدميها الجنة.

وترى المنتقبة في نفسها رحمة وسكنا، لا شيطانا إغوائيا، فهي لا تتخفف من ملابسها عمدا وتسير في الطرقات قصدا لإغواء الذكور. ولا تتمرقع مثلا في ملاهي الرقص، ومشارب الويسكي، كي تظن في نفسها أنها شيطان الإغواء. وإنما تتصرف بناء على أنها عرض عائلة، وشرف أسرة، وكرامة رجل، فتصون نفسها صيانة لجميع هؤلاء.

ولا تظن المنتقبة في نفسها أنها عورة كونها نجاسة.

وهنا يتجلى جهل الطبيب المفكر خالد منتصر بأسطع تجلياته حين لا يعرف أن الإسلام لا يُنجِّس الإنسان. الإنسان ـ ولا أقول المسلم فقط ـ كرمه الإسلام، فلا اليهودي، أو البوذي، أو الهندوسي، أو المسيحي، أو الوثني ـ ولا نساء الجميع ـ نجس.

ولكنها عورة لأنها يُستحَى منها، وتَستحِي من نفسها، وكل ما يُستحَي منه عورة.

وجمال النساء عورة الرجال، وجمال الرجال عورة النساء، وجزء من الرجال مثير، وكل المرأة جمال مثير، من هنا وصفت في بعض الأحاديث الشريفة بأنها مركب الشيطان. وقيل إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، خشي على الرجال، حتى اللبيب الحازم منهم، فتنة النساء.

وفتنهن ليست من قبيل نجاستنهن، أو وساختهن، كما يحلو لخالد منتصر وأشباهه نشره من مغالطات، وإنما من قبيل جمالهن ومياستهن المفطورات عليها، وشتان الفارق بين اعتبار المرأة عورة قبحا وبين اعتبارها كذلك جمالا.

أما اعتبار المرأة عورة قبحا فهو واضح جدا في الكتاب المقدس الذي يضم بين دفتيه التوراة والإنجيل، حيث يمكن لخالد منتصر مطالعة كيف تراها التوراة امرأة خبيثة تخبئ الشيطان وتعيده إلى الجنة ليمكر بآدم، وكيف تراها المسؤولة الرئيسة عن خطيئة آدم. لكن خالد منتصر وأشباهه مهما رأوا ذلك فلن يفتحوا أفواههم بكلمة تستنكره، إذ (البزنس) المتفق عليه هو: المؤتمرات والدولارات مقابل الإساءة للمسلمين والمسلمات فقط لا غير.

ثم يواصل الطبيب المفكر عمله كمرشد أمين للأجهزة الأمنية عندما يدلي بتقرير أمني يلفت الانتباه فيه إلى انتقال الدروس (الإرهابية طبعا) من المساجد إلى الشقق والقصور، وذلك عندما تقوم السيدات الأرستقراطيات باستضافة الدعاة المشاهير لإلقاء الدروس والعظات عليهن، وعلى غيرهن من صديقاتهن العزيزات!

ولم ينتبه الطبيب المفكر إلى هذه المفارقة العجيبة: إن الأرستقراطيات هن الداعيات، لا المدعوات. إنهن الطالبات بكامل إرادتهن، لا المُستدرَجات بسذاجة.

وإذا كان الجهل ركب دماغ خالد منتصر و"دلدل" رجليه، فإنه كما لم ينتبه لن ينتبه أيضا.

مع ذلك فإنه يجدر الإشارة ـ إحقاقا للحق ـ إلى أن مجتمع المنتقبات مثله مثل أي مجتمع بشري، يعاني النقص؛ أي أن هناك منتقبات كثيرات غبيات، لا يفهمن دينهن على الوجه الصحيح، فتجد في الواحدة منهن ذلا وصغارا. ومنهن من تغلب طبائعهن الخبيثة طبائع الدين الحميدة، فيسلكن المسالك المشينة. ومنهن من انتقبن لا لدين، ولا لشرف، بل لممارسة التسول في الخفاء، أو ارتكاب الجريمة في العماء.

 

 

 

غرائب وطرائف خالد منتصر

 

ولن أغادر، عزيزي القارئ، غرفة المقالات قبل إطلاعك على (شوية) غرائب وطرائف مضحكة (أطري) بها على قلبك.

وأعدك بالضحك من (نغاشيش) قلبك عندما تقرأ المقاربات، مفرطة السذاجة والعبط، المنطلقة من جهل (منتصري) طازج ودسم، مع ذلك قد تضحك ضحكا كالبكاء عندما تقرأ مغالطاته المكتوبة بخبث ومكر، وإن لم يتمكن خبثه ومكره من تمرير مغالطاته.

ومن أجل (ساعة لقلبك) إليك هذه التشكيلة الصغيرة لمقتطفات من بعض مقالاته الصحافية ومنشوراته الفيسبوكية.

وقد اقتصدت في اختيارات هذه التشكيلة حتى لا يطول الكتاب، فيفقد رشاقته؛ لكن إن رغب القارئ في المزيد من الضحك فليس عليه سوى تتبع مقالات الرجل في مواقع الإنترنت.

 

طرفة 1

هل نحن جديرون بفان جوخ؟

عنوان مقالة يعلق بها الطبيب المفكر خالد منتصر على وقائع سرقة لوحة شجرة الخشخاش، للرسام الهولندي العظيم فان جوخ، من متحف محمود خليل بحي الدقي محافظة الجيزة المصرية. قال فيها: "... نحن لا نستحق فنسنت فان جوخ.. سرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف مصرى فى عز النهار ومن وسط سرة القاهرة الكبرى، وهو الذى يحتوى على 43 كاميرا مراقبة، هى نكتة مصرية سخيفة من طرائف الكوميديا السوداء التى تعودنا عليها فى ظل العشوائية التى نعيشها.. سرقة أغلى لوحة تمتلكها مصر شىء طبيعى ومتوقع فى مجتمع بات يكره الفن التشكيلى ويتعامل معه أحياناً على أنه حرام، وأحياناً على أنه مضيعة للوقت ودائماً على أنه شخبطة...".

س: ما وجه الضحك في هذا المقطع؟

ج: اعتباره سرقة اللوحة الشهيرة، وضياعها، مجرد عدم استحقاق المجتمع المصري امتلاكها لثلاثة أسباب كوميدية، أحدها أن هذا المجتمع يتعامل مع الفن التشكيلي على أنه حرام! وهذه مغالطة مضحكة تُثبِّت وضعية الطبيب المفكر في مكان مميز من ساحة الجهل الأكبر، كونه يتلكك للزج بالدين كسبب رئيس لأي مصيبة تلحق بالمجتمع المصري؛ فمعروف فقهيا أن الفن التشكيلي هو أحد الفنون التي تتوافق معاييره الفنية مع المعايير الإسلامية توافقا تاما.

ثم أن عددا من المتاحف الكبرى، في مختلف عواصم العالم، تعرض لمثل هذه السرقات، فمن أي جهة استحقت تلك المجتمعات ضياع بعض مقتنياتها بالغة الأهمية وهي المجتمعات المحبة لجميع الفنون، والعاشقة لها حد التقديس! 

هذا يشبه حكاية الرجل الذي نامت زوجته بجواره في السرير، فدخل لص فاغتصبها تحت عينيه، وبدلا من أن يوحه اللوم لنفسه، أو على أقل تقدير لحارس العقار الذي يسكنه، إذا به يوجه اللوم لزوجته، لأنها تنام بجواره في قميص نوم خليع!

 

طرفة 2

أراد ترويض القط فصار نمرا.

عنوان مقالة تتناول علاقة الرئيس الراحل السادات بالتيار الديني الأصولي. قال خالد فيها: "... ظن الرئيس أنور السادات أن بإمكانه أن يروض القط الآتى من أحراش المجهول وغابات التكفير، تخيل أن مخالب القط المختفية داخل وسائد اللحم ستتحول إلى ريش نعام، لكن القط الذى كان يتم علفه وتسمينه، عاد إلى تصنيفه فى سلم الغابة، الأصل نمر، والقط لم ينس مطلقاً هذا الأصل...".

وهنا لنا أن نضحك من الرجل الذي يحض على إعلاء العلم فوق الدين ثم يتكلم بجهل في مسألة أثبتها العلم كحقيقة مؤكدة، وهي انتماء النمر إلى القط، لا القط إلى النمر. فلم يذكر علم الأحياء شيئا عن وجود عائلة (نمرية)، لكنه ذكر كثيرا عن وجود عائلة (قططية)، وهي العائلة التي ينتمي لها الأسد ملك الغابة (بذات نفسه).

على هذا كان من الضروري لفت انتباه الطبيب المفكر خالد منتصر إلى أن الحمار بالضرورة لا يمكن أن يكون منتميا إلى تلك العائلة العظيمة.  

 

طرفة 3

ثأر الشهيد.

عنوان مقالة تناول فيها الطبيب المفكر خالد منتصر علاقات الرؤساء المصريين قبل ثورة 25 يناير 2011م بجماعة الإخوان المسلمين. قال فيها: "... تصالح معهم مبارك فى صفقة (الكرسى لى والشارع لكم)، ومنحهم هبة البرلمان بأكثر من ثمانين كرسياً، فقتلوه حياً، ألقوا إليه بطعم تأييد التوريث حتى اصطادوه بسنارة بديع ومحمد مرسى واختطاف يناير وتحويلها لخومينية جديدة...".

ويمكن لقارئ هذا المقطع أن يضحك ضحك البكاء لأكثر من نقطة فيه؛ أولها أن الطبيب المفكر أكد ـ دون قصد ـ على أن رأس السلطة في مصر يحدد تركيبة البرلمان، وبعدد الكراسي (كمان)، لا الانتخابات التشريعية.

وثانيها أن هذا الفعل السلطوي من الرئيس المصري لم يدفع ضمير المثقف خالد منتصر إلى توجيه الإدانة لرأس السلطة، بسبب تدخله لصالح تغيير مسار الانتخابات عنوة، وذلك بتزوير نتائجها، لتحديد عدد كراسي كل حزب بما يروق للنظام الحاكم، بل ذهب يوبخ الإخوان لأنهم (بياكلوا وينكروا)؛ ألم يمن عليهم السيد الرئيس مبارك بأكثر من 80 كرسيا مع ذلك قتلوه حيا بالخديعة!

وثالثها تضحكك (من قلبك). لأن الرئيس الراحل حسني مبارك لو أحب أن يمن على الإخوان المسلمين فعلا لترك المسار الانتخابي دون تدخل، فلو فعل ذلك لحصد الإخوان المسلمون أكثر من 200 كرسيا برلمانيا ببساطة ويسر. لأن الغالبية العظمى من أصوات الشعب المصري ذهبت إليهم باعتبارهم المعارضة الحقيقية القادرة على عرقلة الفساد العظيم الذي نتج عن عقد الزواج شرعيا بين السلطة ورجال الأعمال السمان. وأنا أتذكر تلك الانتخابات جيدا، وكيف كان الشعب (بيزقطط) فرحا فور الإعلان عن فوز أحد أعضاء الإخوان.

المضحك أكثر هو محاولة لصق الإخوان المسلمين بتهمة تغرير الرئيس حسني مبارك، وإيقاعه في فخ مهلك نصبوه له بفكرة التوريث. وكأن الإخوان المسلمين كانوا أصدقاء حميمين للرئيس الراحل، يقضون معه الأوقات الدافئة، ويتسامرون معه في الليالي المقمرة بحديقة قصره الرئاسي، فأمكنهم هذا التقارب الحميم من الالتصاق بحسني مبارك درجة الوسوسة في أذنيه و(الزن) على دماغه ليقوم بتوريث الحكم لابنه!

وكأن جميع الشعب المصري لم يكن يعلم أن أعضاء الجماعة المؤثرين كانوا على الدوام حبيسي المعتقلات، لا يغادروها إلا ليعودوا إليها. وكأن الذين زينوا التوريث للرئيس الراحل لم يكونوا معروفين فعلا: إنهم المزيج المكون من بعض رجال السياسة والأعمال.

 

طرفة 4

لا لإعفاء دور العبادة من رسوم الكهرباء.

عنوان مقالة (باينة) من عنوانها. حيث يعترض الطبيب المفكر على طلب قدمه أحد أعضاء مجلس النواب مضمونه إعفاء دور العبادة من دفع فواتير الماء والكهرباء. قال خالد منتصر فيها: "... عندما أذهب إلى قرية وأجد الفلاحين الذين يشتكون من فواتير كهرباء بيوتهم، نائمين فى الصيف على الموكيت فى الجوامع مستمتعين بالتكييفات، تاركين النوافذ مفتوحة لمضاعفة الاستهلاك والتحميل على أجهزة التكييف التى تأتى على شكل تبرعات من مواطنين، هم أنفسهم الذين لو طلبت منهم أى تبرعات لمستشفى أو مدرسة لن يدفعوا مليماً واحداً بينما يدفعون عشرات الآلاف فى تكييفات لدور عبادة!".

اضحك من (حَزقة) خالد منتصر التي تشبه (حَزقة) إسماعيل ياسين عندما اشترى العتبة، وتصور أن إيرادتها يجب أن تصب في جيبه، وغضب عندما ظن أن المطافي والبريد يمتنعان عن دفع (الأجرة) الشهرية. بيد أن (حَزقة) خالد حزقة سافلة (الصراحة)، طعمها مشبع بالنذالة والخسة، وريحتها فساء. إذ يستكثر على الفلاحين ـ ويقر بأنهم يشتكون من فواتير كهرباء بيوتهم ـ خطفهم ساعة نوم في مسجد قريتهم المُكيَّف! وهو الذي ربما يعيش في فيلا مزودة بتكييف مركزي، بحيث وهو يجلس يعمل (بيبي) في (التواليت) يجلس متكيفا. وهو السرف بعينه حتى وإن دفع فواتير الكهرباء. لكنه انعدام شعور مثقفي النخبة المصرية في هذا الزمان، انعدم درجة استكثارهم على الفلاحين تركهم بيوتهم زهقا من حرارة الجو إلى المسجد المكيف، ويطالبونهم بدفع فواتير كهرباء تكييف المسجد، وكأن دور العبادة ليست خدمة عامة يجب دعمها من الضرائب المجموعة (بمنتهى الجدية والدقة) من هؤلاء الفلاحين، فيما قد يتهرب منها أمثال خالد منتصر، الذي ربما لا يدفع ضرائب للدولة عن كتبه، ولا مقالاته، ولا لقاءاته، ولا لجوائزه المقبوضة بالدولار. أما الفلاحون فيكدون، ويشقون، ليقدموا لمصر الخير والثراء، بينما خالد منتصر وأشباهه يقدمون لها الفقر والخراء. (لا مؤاخذة).

وبدلا من توجيه اللوم لحكومة يضطر مواطنوها لمغادرة بيوتهم للنوم في المساجد، ويسائلها عن الأسباب التي أدت بهؤلاء إلى هذا المسلك المهين، إذا به يطالب الفقراء بالموت قيظا في بيوتهم المختنقة بالحرارة، أو دفع ثمن الكهرباء العمومية!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

طرفة 5

ندى ضحية ختان العقل.

عنوان مقالة عن جريمة ختان البنات (الآثمة)، كتب في بعضها: "... أرجو من الأطباء تعليق العقوبة المقررة فى القانون على من يجرى عملية الختان، وسأذكرها هنا لعل يكون فيها الردع والتذكرة، ففضلاً عن أن هذا الطبيب خان شرف المهنة فقد تعدى أيضاً على قانون الطفل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 1996م، المعدل بالقانون 126 لسنة 2008م، والمادة 242 مكرر، من قانون العقوبات الصادرة بالقانون رقم 58 لسنة 1937م، المستبدلة بالقانون رقم 78 لسنة 2016م، والتى قررت عقوبة السجن من خمس إلى سبع سنوات لكل من قام بختان لأنثى، وتكون العقوبة السجن المشدد إذا نشأ عن هذا الفعل عاهة مستديمة أو أفضى ذلك الفعل إلى الموت، والمادة 242 مكرر أ، المضافة بذات القانون، التى قررت الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز ثلاث سنوات لكل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناء على طلبه، وكذلك المادة 10 من القانون رقم 415 لسنة 1954م فى شأن مزاولة مهنة الطب، وقرار وزير الصحة رقم 271 لسنة 2007م، الصادر بتاريخ 28 /6 /2007م ويحظر إجراء الأطباء وأعضاء هيئات التمريض وغيرهم أى قطع أو تسوية أو تعديل لأى جزء طبيعى من الجهاز التناسلى للأنثى...".

ولن نضحك على مطالبته بـ(تعليق) القانون في حين يقصد (تطبيقه)؛ إذ من المؤكد أن الطبيب المفكر يعرف التضاد بين معنَي (تعليق) و(تطبيق). وأن الأمر محض سهو. لكنا سنضحك من إغراقه في تأييد قانون حبس الطبيب الذي يختن البنات وحبس من يطلب ختانهن. وفاته أن الصبيان يتعرضون أيضا إلى هذه الجريمة (النكراء)، بل الغرلة التي تُقطَع من الصبيان أكبر جدا من طرف البظر الذي يُقطَع من البنات. فلماذا لا يساوي الصبيان بالبنات فيطالب بقانون يحمي أعضاءهم الحميمة أيضا. أو يسكت عن المطالبة للبنات كما يسكت عن المطالبة للصبيان.

لكن خلف البنات جمعيات نسائية، وخطط منظمات دولية معنية، ودعوات لمؤتمرات والدفع بالدولارات، و(البزنس) على أشده.

وعلى ما قال وائل غنيم: هز يا خالد هز.

التنوير كسِّبنا كتير. 

 

طرفة 6

الشارع لهم والتحرش حقهم.

وهو عنوان مقالة عن الصعوبات التي تواجه البنات في مصر، كتب خالد في بعضها: "... كم أتعاطف مع من وهبه الله البنات، كيف يفكر وهو يعيش هذا الرعب والفزع اليومى؟!! لدرجة أن الكثيرين صاروا يتمنون ويدعون الله ألا ينجبن البنت لأنهم لن يستطيعوا تقديم الحماية لهن، البنت التى هى كل الحنان والطبطبة والجمال والاحتضان، صار الأب يقول لنفسه وهو يبكى من صراع رغبته فى امتلاك هذا الحنان والخوف على واهبة هذا الحنان من الرعاع، هل من الواجب عليّ أن أمتلك ترسانة أسلحة حتى أحمى بنتى من التحرش؟".

وهنا نضحك من التصوير الكوميدي للمشكلة. عندما يصور لنا الأب متلهفا على أن تكون له بنت لولا (بعبع) التحرش.

والحقيقة غير ذلك. فمن قديم الأزل كان هناك في شبه الجزيرة العربية من يئد بناته.

ومن قديم الأزل تحكي أدبيات أوروبا والهند، وغيرهما، عن الغصة التي تصيب الأب عندما يسمع خبر إنجاب زوجته لبنت، وعن الفرحة التي تكاد تطيره لو بُشِّر بالولد.

والمرأة الشعبية في بلادنا الصعيدية تدندن وهي تصف حال الوالدة عندما تضع ولدا، وعندما تضع بنتا، فتقول: لما قالوا ده ولد انشد ضهري وانسند. ولما قالوا دي بنيَّه وقعت الحيطة عليَّه.

وعندما تكبر البنت تجد مكانا فسيحا في قلب أبيها. وربما يحبها ويرتاح إليها بأكثر مما يحب الولد ويرتاح إليه. وهو نفسه بعد ذلك من يقول: اللي ماعندوش بنات ماخلفش. لكن هذا لا يمنع من أنه يصاب بدرجة ما من الحزن عندما تضعها زوجته فيما هو ينتظر الولد.

ثم إن مشاكل أبي البنات أعمق، وأصعب، وأكبر، من التحرش. إذ التحرش يمكن التغلب عليه، أو على أقل تقدير تجنبه، بالملابس الحشمة، وبالأدب والخلق العاليين الناتجين عن تربية صحيحة، لكن أي حل ممكن يقدمه لنا الطبيب المفكر إزاء مشاكل أبي البنات الاقتصادية، الناجمة عن متطلباتهن التي تفوق متطلبات الأولاد بمراحل؟

هذا ما لا يستطيع خالد منتصر الخوض فيه، لأن الكلام فيه بمثابة خطر يهدد (البزنس) الذي يدر عليه الأموال الوفيرة در المطر في غابات أفريقيا الاستوائية.

 

طرفة 7

إبراهيم نصر ابن مصر.

وهو عنوان لمقالة يتناول فيها خالد منتصر مستجدات العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، قال فيها: "... هكذا كانت قضية مسلم أو مسيحى غير مطروحة أصلاً، حتى البهائى الذى يكافح الآن من أجل بطاقة هوية كان يبكى عند موته الجميع، فعندما رحل بيكار تلألأت مآقى المصريين بدموع الحزن، وتذكروا صاحب السندباد ورسام الأنامل الرشيقة وموثق رحلة نقل معبد أبوسمبل، هكذا كانت مصر فجر الضمير...".

فإذا كانت مصر هي فجر الضمير فعلا، وأم الحضارات بدون شك، فما المضحك في هذا المقتطع من المقالة؟

الإجابة: إنه هذا الادعاء بأن المصريين كانوا يبكون عند موت البهائيين، إذ لا يعرف عموم المصريين شيئا عن البهائية ولا البهائيين، وكذلك كثير من مثقفي مصر لا يعرف عن البهائية إلا القليل. وكان المصريون يحبون الرسام بيكار، الذي كانت جريدة الأخبار تنشر رسوماته الكاريكاتورية المميزة وقد كتب إلى جوارها جملا معبأة بالحكمة الإنسانية الصافية، لكن ما إن نما إلى علمهم أنه بهائي حتى انصرفوا عنه.

خالد منتصر كعادته ـ وكعادة أشباهه من المستنورين ـ دائما ما يتكلمون عن مصريين غير المصريين الذين نعرفهم، المصريون الذين ينتشرون في ربوع مصر وأرجائها من البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة ناصر، ومن رفح شرقا إلى السلوم غربا.

 

والآن.

إذا كانت ملكة استخراج كل ما هو طريف ومضحك في مقالات خالد منتصر قد نشطت لديك عزيزي القارئ، فسأضع لك مقالة كاملة له على سبيل الاختبار العملي لقدرات ملكتك.

طالع عزيزي المقالة التالية وأجب الآتي:

استخرج عشرة نقاط مضحكة، واذكر العلة.  

 

نحن نفتح وهم يستعمرون

"التراث ده كان السبب فى نهضة العرب، حتى إن أقدامهم كانت واحدة فى الصين، والأخرى فى الأندلس بفضل الفتوحات الإسلامية". هذا اقتباس من كلمة فضيلة الإمام شيخ الأزهر فى مؤتمر التجديد رداً على د. محمد الخشت، رئيس جامعة القاهرة، والحقيقة أننى لا أريد للمسلم المصرى أن تكون قدمه اليمنى فى الصين ولا اليسرى فى الأندلس، أريد أن تكون قدمه ويكون عقله وقلبه موجوداً ومتجذراً فى وطنه مصر، وأقول لشيخ الأزهر إن قوة التراث لم تكن سبباً فيما تسميه فضيلتك فتحاً، بل كان السبب هو قوة السيف والحروب العسكرية، ومثلما قلت فضيلتك إن الصليبيين كانوا يرفعون الإنجيل بيد، وفى اليد الأخرى السيف، فإننا أيضاً فعلنا نفس الشىء، لكن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم قد اعتذروا عن هذا التاريخ الأسود، ونحن لم نعتذر بعد، وما زلنا نصف ما فعلناه من غزو واستعمار فتحاً مباركاً، اسم دلع وتدليل نخفف به من وطأة الوصف الصحيح، كما فعلنا من قبل مع الهزيمة التى صارت نكسة، والكوليرا التى صارت مرض الصيف، فضيلتك قدمت لنا وصفاً لهذا الفتح التراثى الجميل، حتى اعتقدت أننا كنا نغزو وفى اليد اليمنى زهرة وفى الأخرى الجيتار!! أذكر فضيلتك بمثال بسيط واحد يوضح لك حجم الملائكية التى اتسمت بها تلك الفتوحات، مثلا الجرائم ضد أمازيغ شمال أفريقيا فى عمليات سبى كبرى وصلت إلى 600 ألف أسير من الرجال وسبايا النساء من البربر المقيدين بالسلاسل على يد هارون بن موسى بن نصير، إذ كانت حصته وحده فى امتلاك الرجال كعبيد والإناث كمِلْك يمين 50 ألف أسير وسبية وحده يتصرف بهم كيفما يشاء وحيثما يريد!! كيف درستها فضيلتك، وما قراءتك لها؟ هل قرأت فضيلتك الرسالة المشهورة لأمير المؤمنين التى جاء فيها: "كتب هشام إلى عامله على أفريقيا.. أما بعد، فإن أمير المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى عبدالملك بن مروان، أراد مثله منك وعندك من الجوارى البربريات الماليات للأعين الآخذات للقلوب، ما هو معوز لنا بالشام وما ولاه. فتلطف فى الانتقاء، وتوخ أنيق الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصدور، ولين الأجساد، ورقة الأنامل، وسبوطة العصب، وجدالة الأسوق، وجثول الفروع، ونجالة الأعين، وسهولة الخدود، وصغر الأفواه، وحسن الثغور، وشطاط الأجسام، واعتدال القوام، ورخام الكلام.."، وقال عبدالملك بن مروان: "من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية، ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية"، إنها صورة فقط من الفتوحات التراثية العظيمة، وكأننا نختار معزة فى سوق التلات لا إنسانة لها كيان وروح!! هذا مجرد مثال على ما نطلق عليه فتوحات وهو لا يحتمل إلا اسماً واحداً فى القانون الدولى يا فضيلة الشيخ، الاسم هو استعمار وغزو".

 

 

 

 

غرفة الكتب

 

في هذه الغرفة عشرة كتب لخالد منتصر. عناوينها كالآتي: "فوبيا العلم"، و"وهم الإعجاز العلمي"، و"الختان والعنف ضد المرأة"، و"مكان في القلب/ أبو بكر عزت"، و"حقائق وأوهام عن الجنس"، و"دفاعا عن العقل"، و"تواصل لا تناسل"، و"لي سلفكم ولي سلفي"، و"بورتريهات بألوان الشجن". و"هل هذه حقا بديهيات دينية"، و"هذه أصنامكم وهذه فأسي".

هكذا من طبيعة العناوين ـ دون قراءة ـ نستشف أن معظم مواضيع هذه الكتب تشتبك مع الدين الإسلامي في ساحات متعددة؛ منها العلمي، ومنها العرفي، ومنها الفكري. لكن إذا كنا نشرع في سبر أغوار الطريقة التي يتبعها الطبيب المفكر خالد منتصر، في غرفة عملياته هذه في أثناء محاولته علاج الآفات الفتاكة بالمجتمع المصري، بدقة وكفاءة وموضوعية فلا بد لنا من تجاوز العناوين إلى المواضيع، ومن التخمين إلى التحقيق، ولن نتمكن من هذا إلا بقراءة متأنية لهذه الكتب.

تحديدا تلك المشتبكة مع الدين.

وقد كان أن بدأت بقراءة كتابه "وهم الإعجاز العلمي"، وذلك لأن موضوع هذا الكتاب هو ديدن خالد منتصر، فقد شاهدت له أكثر من لقاء تلفزيوني، وطالعت العشرات من منشوراته الفيسبوكية، غير العشرات من مقالاته، فوجدته لا يفتأ يدندن في هذا الموضوع تحديدا: (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). وكيف أنه موضوع باطل. فقرأت هذا الكتاب، والحقيقة أن أسلوب الكتاب ساعدني على قراءته بسرعة ومتعة في آن. فالحق أن الأسلوب رشيق، يطرح موضوعه بشكل مشوق، ويجيد السخرية المهذبة مما لا يقبله، ويستعمل كثيرا أنماط من اللهجة العامية المصرية التي تضيف للأسلوب انسيابية.

قرأت الكتاب. لكن كتابا واحدا لا يكفي للحكم على منهج كامل لواضعه. فقررت قراءة كتابه "فوبيا العلم". فالعنوان يوحي بتماس موضوعه مع الموضوع المفضل لخالد منتصر: (هدم فكرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). والحق هو أنني لم أقرأ هذا الكتاب بنفس الأناة والدقة، لأني وجدته يشبه جدا كتاب "وهم الإعجاز العلمي"، فهو لا يغادر الموضوع قيد أنملة إلا ببعض استشهادات واسترشادات لمفكرين وفلاسفة لم ترد أسماؤهم في الكتاب الأول. هذا غير أن بريق الأسلوب الشيق قد خبا. وأظن أن خبو هذا البريق له علاقة بنوع الكتابة.

الكتابة الصحافية، لا الأدبية.

ولم أقترب من كتبه الأخرى، فتجربة قراءتي لكتابه الثاني في موضوع الدين وعلاقته بالعلم تدفع إلى عدم قراءة بقية كتبه في نفس الموضوع.

وكنا نسمع أغاني أم كلثوم فنجد كل أغنية تتميز عن أختها بأداء مختلف. والست لها صوت مطرب متجدد، واللحن في كل أغنية متفرد، والكلمات طيور تغرد. إنها متغيرة في كل أغانيها، نهر واحد والماء طازج. وهكذا كانت كتب المفكرين أيام زمان. من الجاحظ مرورا بالعقاد وطه حسين وانتهاء بزكي نجيب محمود. كل كِتاب كيان وحده مع أن الكاتب واحد وديدنه واحد. لكن اليوم نسمع أغاني حسن شاكوش، كلمات متغيرة ولحن واحد لا يتغير، لا طرب، وإنما اداء مجدي شطة وحمو بيكا، وعلى هذا النحو تبدو كتب مفكري هذا العصر، كلمات متغيرة وأداء واحد. وخالد منتصر في الكتابة الفكرية مجرد مؤد، مثله مثل حمو بيكا في الغناء. غير أن حمو بيكا يعترف بأنه ليس مطربا، وأنه مجرد مؤدٍ، فيما خالد منتصر لن يقر أبدا بأنه مجرد مؤدي فكر وكتابة. إذ لو اعترف بذلك خسر البزنس (اللي بيأكله بدل العيش جاتوه).       

 

 

 

البداية : من (مع) إلى (ضد)

 

يحكي الطبيب المفكر خالد منتصر في كتابه "وهم الإعجاز العلمي" قصة قصيرة لطيفة يوضح بها لقرائه كيف تحول من مؤيد لفكرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم إلى رافض لها. ثم لم يكتف بمجرد رفض الفكرة، بل اتجه إلى محاربتها.

كتب يقول: "... ما زلت أذكر عندما كنت صغيرا أذهب بصحبة أبي إلى مسجد قريتنا في دمياط يوم الجمعة، المشهد محفور في الذاكرة كأنه الأمس القريب، خطيب كفيف جهير الصوت يكرر ما يقوله كل أسبوع من أدعية مسجوعة وإنذارات للمصلين بالجحيم والثعبان الأقرع، حتى الأخطاء النحوية كانت تتكرر بنفس الكم ونفس الإيقاع. ولكن أهم ما علق في الذاكرة حتى الآن مما كان يكرره الشيخ في كل خطبة هو تفسيره للآية رقم 34 من سورة لقمان: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، والتي كان صوته يتهدج حينها بالتحدي لكل من يتجرأ على القول بأنه يستطيع أن يكشف عن جنس الجنين وهو بداخل الرحم، فقد كان العلم في الآية يُفسَّر عنده على أنه العلم هل الجنين ذكر أم انثى؟ وعرفت بعدها عندما قرأت تفسير الطبري بأن شيخنا معذور، فهذا هو ما كُتِب في هذا التفسير وغيره من التفاسير، وكنت وقتها مبهورا بالشيخ، وأشجع فيه  قدرته على التحدي، وعندما كبرت ودخلت كلية الطب كان جهاز الموجات فوق الصوتية (السونار)  وقتها هو أحدث الموضات في التكنولوجيا الطبية، وعرفت من خلال دراستي قدرته على تحديد نوعية جنس الجنين، ولكن بعض الأخطاء البسيطة التي حدثت في تحديده من أطباء الأشعة جعلتني أخرج لساني لأغيظهم، وظللت على يقيني وتأييدي لشيخ قريتنا في دمياط، وعندما تخرجت تزامن وقت تعييني طبيبا مع الضجة التي حدثت حول جنس الطفل القادم للأمير تشارلز والأميرة ديانا، وعرفت أنه قد تم تحديده في بدايات الحمل الأولى بواسطة عينة من السائل الأمينوسي المحيط بالجنين، وقد بلغت دقة هذا التحليل نسبة مائة في المائة، وبدأت ألسنة الزملاء هي التي تخرج لإغاظتي، وبدأ يقيني وتأييدي لشيخ قريتنا يهتز رويدا رويدا، وعندما تمت ولادة طفلي الأول داعبني زميلي طبيب النساء والتوليد بقوله: ما كنت تقولنا عشان نولده هناك في أمريكا وهم يشكلوه زي ما انت عايز؛ وكانت ثورة الهندسة الوراثية واللعب بالجينات قد بدأت تغزو العقول وتسيطر على جميع المنتديات والمجلات العلمية، وبدأت أتجنب الحديث مع الزملاء، وبدأ يقيني وتأييدي لشيخ قريتنا ينهار، وهاجمني زلزال الشك حتى تصدعت الروح، وتساءلت: أين الإعجاز العلمي الذي عشت في كنفه أقرأ عنه وأفاخر به الأجانب الغرباء الذين لا تحتوي كتبهم الدينية على مثل هذا الإعجاز الذي سبقنا به العلم منذ ألف واربعمائة سنة، والتمست النجدة عند شيخنا الشعراوي لعله يكون طوق النجاة، فاستمعت إلى حديثه التليفزيوني الذي يدافع فيه عن الإعجاز العلمي في هذه الآية بالذات ويقول: إلَّا أن الله لم يكن يقصد الذكر والأنثى وإنما يعلم ما في الأرحام يعني يعلم مستقبلهم؛ وأغلقت جهاز التليفزيون حفاظا على ما تبقى من قواي العقلية، لأنه حاول الخروج من الفخ بتعسف واضح!...".

والحقيقة أن القصة على طرافتها تعاني من مشكلة كبيرة تتعلق بمصداقيتها.

وإذا كان كتابنا هذا الذي بين يديك عزيزي القارئ قد بدأ الدخول بك إلى منطقة نقاش بالغة الجدة، فإنه يتعين علينا تحري ما إن كان الطبيب والمفكر خالد منتصر يجري مختبراته العلمية بأمانة ودقة ـ فعلا ـ على الآفات التي تفتك بالمجتمع المصري، ولن يمكنه ذلك إذا كان يكذب.

تعالوا نضع قصتنا هذه على طاولة البحث خاصتنا (مش خالد منتصر بس اللي عنده طاولة بحث يعني) ونفتش فيها عما إن كانت تحمل المكونات المؤكدة لصدقها أم المكونات المؤكدة لكذبها.

تبدأ القصة بذهاب الطفل الصغير خالد منتصر (وكان واضحا أنه يتمتع بذاكرة قوية) مع والده إلى أحد مساجد دمياط لصلاة الجماعة يوم الجمعة. فرأى على المنبر الخطيب الكفيف، أبو صوت جهير شرير.

وهنا لا بد من أن يصطدم عقل القارئ بهذا السؤال: لماذا دائما ما يكون الشيخ المسلم في كتابات التنويريين رجلا كفيفا بصوت جهير شرير؟! ولماذا يكون دائما غليظ القلب، قاس على الأطفال وهو يحفظهم القرآن في الكُتَّاب؟! وهل ذهب النظر من عيون جميع مشايخ الإسلام في مصر ما قبل ثورة 23 يولية 1952م؟ وهل ذهب الرفق من قلوب جميعهم؟ ولماذا جميعا جهوريو الصوت شريروه؟ أم هو التأثر بنمط وضعه أحدهم في مؤلف سابق ـ وليكن الطبيب طه حسين مثلا في مذكراته "الأيام" ـ فصار هذا النمط هو أيقونة رجال الدين المسلمين وقتها، يقتبسه كل من هب ودب إذا ذكر شيخا ما؟

مع ذلك فللطبيب المفكر خالد منتصر ألا نكذبه إذا كان ممكنا أن ينتقي له حظه العثر إماما كفيفا، جهوري الصوت شريره، من بين جميع إئمة المساجد المبصرين ناعمي الصوت. لكن هل من الممكن تصديق أن طفلا صغيرا يمكنه الإلمام بقواعد النحو في تلك السن بحيث ينتبه لأخطاء الشيخ النحوية، والمكررة أسبوعيا؟!

طيب؛ هل ممكن أن يقوم خطيب مسجد بتكرار شرح آية واحدة لا تتغير في كل جمعة؟!

ويفيد سياق القصة بأن الطفل نما وترعرع وهو بين تصديق وتكذيب لتفسير تلك الآية التي لا يني الشيخ عن تكرارها اسبوعيا، بدليل أنه كبر وبحث عن معناها فوجده في تفسير القرطبي، وكان موافقا لما يكرره الشيخ الكفيف غليظ الصوت، ما جعله يلتمس العذر له. والتماس العذر لأحد لا يعني غير أن هذا الأحد مخطئ بالضرورة، فلا أعذار إلا للمخطئ، ولا اعتذرات إلا من المخطئ. إذن الشيخ مخطئ، لكن خالد منتصر التمس له عذرا بتفسير القرطبي وظل على راسخا في تصديقه.

بل حتى مع دخوله كلية الطب وظهور اختراع السونار الذي يكشف عن نوعيات الأجنة في الأرحام، ظل يصدق الشيخ الضرير أبو صوت شرير فقط لأن جهاز السونار لم يكن يعط قراءات متناهية الدقة لعدم تمكن مستخدميه من الأطباء. فالطبيب المفكر لا يقبل بأقل بمعلومة تقل صحيتها عن 100 %. هكذا وحتى ذلك الوقت ـ ومع ظهور جهاز السونار ـ ظل كلام الشيخ الضرير هو الـ100%!

لكن مع طريقة تحليل علمية أعطت نتائج 100% بخصوص هذا الشأن بدأ الفأر يلعب في عب طالب الطب المتخرج حديثا خالد منتصر.

وعندما داعبه صديقه طبيب النساء والتوليد وهو يستقبل مولود خالد منتصر الأول مخبرا إياه بأنه لو كان في أمريكا لاستطاع إنجاب طفلا بالمواصفات التي يطلبها لعب في عبه فيل. ثم تصاعد الخط الدرامي في القصة ليحكي لنا عن الانهيار النفسي والتضعضع الروحي الذي لحق بالطبيب وهو يرى انقضاض ما عاش يؤمن به من تفسير الشيخ الضرير أبو صوت شرير للآية القرآنية المكرمة، الأسبوعية المكررة.

ومن حقنا عدم التعاطف مع خالد ـ الرجل الذي يعلي شروط العلم ـ إذا كان سيكلمنا بلغة المشاعر التي يكفر بها كوسيلة إثبات حقائق. فما ماهية (الشك) الذي يخبرنا بأنه هاجمه وزلزله، وما ماهية (روحه) التي تصدعت، إذا لم يكونا شيئين ماديين يمكن إخضاعهما للأدوات المعملية؟ مع ذلك ها هو ينتظر منا تصديقه بأدلة ليست يقينية الإثبات!

المهم؛ ما إن ضربه الزلزال وصدع روحه حتى هم باحثا عن معلومة دينية تؤكد له أن التفسير القديم للشيخ الضرير أبو صوت شرير لم يزل صامدا في وجه العاصفة العلمية العاتية، فإلى أي كتاب رصين ذهب؟ أو إلى أي تفسير من التفاسير غدا؟ في أي الأوراق قلب وفصص وبحث ودرس؟

الإجابة صادمة.

الرجل ذو المنهج العلمي لم يفعل شيئا من ذلك. بل هرول إلى التليفزيون ليجد ـ ويا لمحاسن الصدف ـ الشيخ الشعرواي على الشاشة بعد صلاة الجمعة، فجلس أمام صورته المتحركة منتظرا أن يربت على قلبه المضطرب بتفسير لما حدث.

وبدون أي تواصل هاتفي، أو اتصال عبر وسيلة مجهزة علميا، وإنما عن طريق (التخاطر) و(تواصل الأرواح) هتف هاتف في خلد الشيخ الشعراوي (الله يرحمه) بأن خالد منتصر يجلس خلف الشاشة مضروبا بزلزال الشك ومحطم الروح بسبب ظهور علم حديث يحطم ما كان راسخا في قلبه من تفسير الشيخ الضرير أبو صوت شرير للآية إياها. فإذا بالشعراوي يؤكد على صحية تفسير الشيخ الضرير! بل وزاده من التفسيرات تفسيرا جديدا موافقا للعلم الجديد، لكن بدلا من أن يستقر قلب خالد منتصر بهذه المعجزة الشاشاتية، إذا بربع في عقله يضرب، فيغلق الجهاز أسفا لخزعبلات الشعراوي.

ـ قصة ملخلخة؟

ـ نعم.

ـ إذن أهلا بك في العالم الملخلخ لكتب للطبيب المفكر خالد منتصر.

 

 

وهم الإعجاز العلمي

 

العنوان أعلاه لأحد كتب الطبيب المفكر خالد منتصر؛ موضوعه مناقشة ما يراه المؤلف اشتباكا مزعوما بين العلم والدين، ودحض كل علاقة يحرص رجال الدين أو رجال العلم من المتدينين على إقامتها بين الدين والعلم. وعليه فإن مؤلف هذا الكتاب يطالب بفصل العلم عن الدين بدعوى أن للعلم مجالا وللدين مجالا مختلفا. فالعلم ـ حسب قوله ـ متغير قابل للتكذيب، أما الدين فثابت لا يقبل إلا التصديق. فإذا حدث الخلط بينهما خسر الدين بأكثر مما خسر العلم.

ها هو يقول في هذا الكتاب: "... نحن عندما تصدينا لدعاة الإعجاز العلمي كان هدفنا الأول هو الدفاع عن الدين وعن العلم ايضا...".

ويؤكد: "... قد قصدت أن أذكر بعضا من الصراع بين رجال العلم ورجال الدين في الغرب كي أؤكد بأن الخلاف بينهما هنا في الشرق لا يرجع إلى طبيعة كامنة في عقلنا الشرقي أو في ديننا الإسلامي، ولكن الخلاف يرجع إلى ما قلته سابقا عن الاختلاف بين طبيعة العلم وطبيعة الدين...".

وتذكرنا الدعوة بفصل العلم عن الدين بدعوات فصل سابقة لا تني تجدد كل حين وآخر لبعض السياسيين المنزعجين من الإسلام السياسي، فيطالبون بفصل الدين عن السياسة بدعوى قذارة السياسة وطهارة الدين، فإذا حدث خلط بينهما خسر الدين بأكثر مما خسرت السياسة.

ومع مرور الوقت قد لا يكون غريبا ظهور دعوة لاحقة تطلقها طائفة بشرية ما تظهر مستقبلا تطالب بفصل الأخلاق عن الدين، لأن بعض الأخلاق رديء، بينما الدين كله جيد، فإذا حدث خلط بينهما خسر الدين بأكثر مما تخسر الأخلاق!

ولن تنتهي المحاولات الدؤوبة لتفريغ الدين من جميع محتوياته الحيوية، ليبقى بعد مجرد نصب تذكاري قائم في القلوب يطوف به المتعبدون سرا، أما علانية الحياة فلتكن من نصيب منهج مادي جديد خُطّ كتابه الاقتصادي المقدس، وأُسِّست مبادئه (العولمية)، وبدأ التنفيذ بهذه المطالبات المتكررة بفصل المكونات الحيوية للدين عنه.

وربما الدعوة لفصل العلم عن الدين هي أخطر تلك الدعوات.

لأن فصل العلم عن الدين يعني انتزاع المَركبة التي يقطع بها الدين الرحلة نحو المستقبل، وتجعله في صيرورة انتقال دائم من المجال التاريخي القديم إلى المجال الحاضر ومن ثم المستقبلي. فإذا انتُزِعت هذه المركبة بقي الدين ثابتا في مجاله التاريخي، هذا التاريخ الذي يدفع به تقادم الزمان إلى أعماق الماضي السحيق رويدا رويدا حتى يختفي، ويختفي الدين معه.

لماذا ندافع عن الدين؟

سأحاول إجابة هذا السؤال بشكل (علمي)، لذلك لن أقدم حججا أخلاقية أو إيمانية.

لنفترض عزيزي القارئ أنك ترغب بشدة في شراء سيارة، وقد امتلكت المال اللازم لشرائها، رغم ذلك فوجئت بأن جميع معارض السيارات لا تعرض سوى طرازين منها، أحدهما بطيء لا تزيد سرعته عن 30 كيلومترا في الساعة، والثاني سرعته 300 كيلومترا في الساعة، فأي الطرازين تختار؟

لا شك في أن أي عاقل مفكر طبيعي سيختار الطراز الأسرع.

نحن في زمن السرعة يا رجل.

لكن أي الطرازين تختار لو أن صاحب المعرض أخبرك بأن هذا الطراز فائق السرعة يعاني من وجود عيب بسيط: عدم وجود مكابح. لكن الطراز البطيء به مكابح.

لا شك في أن أي عاقل مفكر طبيعي سيختار الطراز الأكثر أمنا ـ ذي المكابح ـ مهما كان بطيئا. فقيادة سيارة بطيئة يمكن إيقافها أفضل بدرجة لا تقارن من قيادة سيارة تنطلق كالصاروخ ولا يمكن إيقافها. ستذهب براكبها إلى كارثة مؤكدة.

لكن ماذا سيكون قرارك إذا أخبرك البائع الأمين بأن هذا الطراز البطيء ذي المكابح يعاني بدوره من عيب بسيط: إنه يفتقد إمكانية العودة إلى الخلف. (مافيهوش مارشدير).

هل يمكن أن تقبل بشراء سيارة ـ مهما كانت آمنة وتتمتع بوجود كوابح ـ تفتقد لأداة تحريكها إلى الخلف.

أي: فاقدة للقدرة على المناورة والاتجاه إلى المسارات الصحيحة؟

لا أعتقد أنك أحمق. قطعا ستنصرف عن شراء السيارت من هذه الطرز غير مكتملة الأدوات.

(السيارة) ترمز للإنسان منا.

دواسة البنزين ترمز لـ(العلم). كلما ضغطت عليها تصاعدت القوة المحركة للسيارة فزادت سرعتها.

أما المكابح مع (المارشدير) فيرمزان لـ(الدين). إنهما يضبطان السرعة واتجاه حركة السيارة.

(العلم) يدفع بحركة الإنسان إلى الأمام بقوة وسرعة و(الدين) يكبح جماح هذه الحركة عند اللزوم، ويعيد توجيهها نحو السلامة.

هكذا يمكننا ملاحظة أن العلم والدين نظامين ضروريين لحياة الإنسان، بغير أحدهما تتعرقل.

بغير العلم يتخلف الإنسان ويبقى محلك سر. وبغير الدين ينطلق الإنسان إلى هاوية المادية ذات العمق السحيق المميت.

لكن الطبيب المفكر خالد منتصر يؤكد في كتابه على أن: "... أي خلط متعسف ـ يقصد الخلط بين الدين والعلم ـ يؤدي بالقطع إلى مثل هذه المعارك التي تؤخر وتعوق مسيرة التقدم".

وهو أيضا شبه آراء الأصوليين الدينيين بـ(الفرامل) عندما كتب في فصل "الفتاوى الطبية للشيخ الشعراوي" من كتابه "وهم الإعجاز العلمي" يقول: "... وللأسف ستظل مثل هذه الفتاوي فرامل تكبح أي تقدم لعجلة الحضارة".

وعليه يطالب بضرورة تخليص السيارة من المكابح (والمارشدير مالوش لازمة من غير فرامل). لإنه يرى أن السيارة بدون (فرامل) ستكون أفضل وآمن حالا للإنسانية!

 

 

العلم يرتدي العمامة

 

هذه العبارة الساخرة وضعها منسق الكتاب مكررة أعلى كل صفحة من صفحاته بالتوازي مع العنوان: "وهم الإعجاز العلمي".

وإلى الآن يضع الطبيب المفكر خالد منتصر في صدر موقعه الإلكتروني كلمة للشاعر الراحل فاروق شوشة يستعرض فيها إمكانياته العلمية والإعلامية والأدبية المتميزة، قال فيها من ضمن ما قاله عن خالد إنه أصبح: "... واحدا من كتاب القصة القصيرة الموهوبين والنادرين...".

ولا نعرف إلى أي منجز أدبي لخالد منتصر استند الراحل فاروق شوشة وهو يدلي بشهادته تلك! إذ بالبحث والتحري المجهدين لم أعثر على كتاب أدبي واحد للرجل من بين كتبه العشرة التي أصدرها حتى الآن. لا كتابأ قصصيأ أو روائيأ أو نقديا، ولا حتى كتيبا للأطفال! لكن، وعلى عهد المصريين اللطفاء والعرب الكرماء راح شاعرنا الراحل فاروق شوشة يمنح ويمدح فراغا خاليا من الإنجاز. وعلى عهد المصريين الفهلويين والعرب المخادعين راح طبيبنا ومفكرنا خالد منتصر يباهي بالمدح الفارغ، فالطبيعة البشرية الغالبة هي قبول الهدية غير المستحقة إذا كانت مجانية، وبالأحرى إذا كانت تضيف إلى واجهته المجتمعية مزيدا من البريق وإن كان زائفا؛ المهم إنه بريق!

لكن جملا كثيرة جدا يكتبها خالد منتصر تلفت انتباهنا إلى أن الرجل ليس له في ثور الأدب ولا في طحينه. وأن فرسه أهون من أن تركض به إلى أبعد من الكتابة الصحافية الخفيفة، ذات اللغة التوصيلية المهتمة بالتشويق. من هذه الجمل الكاشفة تلك الجملة المكررة أعلى صفحات كتابه "وهم الإعجاز العلمي"، والتي جعلتها أنا عنوان هذا الفصل: "العلم يرتدي العمامة".

فالعمامة لا ترتدى، فهي ليست جلبابا ولا قميصا ولا بذلة ولا جبة. إنها مجرد قطعة طويلة من القماش تلف أعلى الرأس، أو تلف بعيدا عن الرأس ثم توضع عليه. فكان الأجدر به ـ إذا كانت له علاقة طيبة بالكتابة الأدبية ـ أن يتخير جملة تقارب هذا المعنى، لا أن يضع هذه الجملة مختلة التركيب.

كفانا كلام في هذه النقطة ولدخل في المهم: موضوع الكتاب.

خالد منتصر يرى أن شيوخ الإسلام المعممين يتدخلون في الشأن العلمي تدخلا سافرا. و: "... لا يقبلون التأصيل لأي نظرية علمية في القرآن، ومنها مثلا نظرية أصل الإنسان...". وأن تدخلهم لصالح فكرة الإعجاز العلمي في القرآن ليس إلا: "... وهم صنعته عقدة النقص عند المسلمين...".

ثم يشكو خالد منتصر عجره وبجره، وكثافة عدد صرر الأموال التي يجنيها الأفاقون من متعمدي خلط العلم بالدين، وأنجمهم الصاعدة في سماوات الشهرة، فيقول في كتابه: "... لكنه زمن الدروشة الذي جعل صوت العقل أخرس، ويد التنوير مشلولة، وتجار الدين مليارديرات ونجوم فضائيات وسماسرة فتاوى".

ورغم أن عبارة (العلم يرتدي العمامة) هي ما تتكرر أعلى صفحات الكتاب، ما يعني تركيز الاتهام للمشايخ أصحاب العمائم ـ دون غيرهم ـ بالمتاجرة بفكرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إلا أن خالد منتصر يوجه اتهامه لصنف آخر من المسلمين لا يضع العمائم ولا القلنسوات ولا الطواقي: إنهم الأطباء. وعلى رأسهم الناشط الإعجازي العلمي الدكتور زغلول النجار، وكبيرهم الذي علمهم السحر الدكتور مصطفى محمود. غير أنه أضاف للدكتور زغلول النجار تهمة جديدة: إنه لم يكتف بتفعيل وتنشيط فكرة الإعجاز العلمي في (القرآن الكريم)، بل هو أول من دشن فكرة  الإعجاز العلمي في كتب (الحديث الشريف) أيضا.

فيهاجم الطبيب المفكر خالد منتصر الدكتور زغلول النجار في أحد فصول كتابه "وهم الإعجاز العلمي" قائلا: "... المؤمن لا يحتاج إلى هؤلاء ـ يقصد العاملين بالحقل الطبي ـ لكي يثق بأنه قد دخل من الباب الصحيح ـ يقصد من الباب الصحيح للإسلام ـ ولكن حزب زغلول النجار من سماسرة الإعجاز العلمي لا يعترفون إلا بأن الإسلام يحتاج إلى مذكرات كلية الطب والعلوم لكي نعتنقه، وبأن المسلمين يحتاجون إلى دروس خصوصية في تركيب الذرة وقانون مندل لكي يتفهموا القرآن!!".

وفي فصل آخر بعنوان "الخرافة تحكم مصر" يهاجم خالد منتصر الدكتور مصطفى محمود، وذلك عبر توجيه الإدانة لدور الإعلام المصري في نشر الخرافة، فيقول: "... وحتى في برامجه التي تدعي الربط بين العلم والإيمان يظل مقدم البرنامج يسخر من العلم، ويؤكد على أن المخترع الحقير المغرور لن يصل إلى عظمة الله، في افتعال لمشاجرة لا توجد إلا في ذهن مقدم البرنامج...". وفي فصل آخر يطلق المزيد من السهام تجاه الرجل، فيقول: "... ما أن ينتهي عرض الفيلم حتى ينهال الدكتور مصطفى محمود ذما وتقريعا في الغرب (الذي هو للعلم صانع هذا الفلم) وهجوما على منهج هذا الغرب المادي المليء بالشذوذ، والمتحفز لكل ما هو إسلامي، إذا تكلم عن مرض فهو يتكلم بشماتة عن أن العلم لم يصل إلى الدواء الناجح لهذا الداء، ويقارن بين قدرة الإنسان العلمية وقدرة الله العلوية!! وإذا تحدث عن اختراع يعلق بأن الاختراع ده يروح فين وسط الهبات الربانية التي حبانا الله بها!! مقارنة غريبة. والأغرب أنها لم يطلبها منه أحد، فهو قد يتبرع بها من تلقاء نفسه...".

أما ما زاد الطين بلة، وفقع مرارة الطبيب المفكر خالد منتصر، ما كتب عنه في فصل عنوانه "آخر موضة في طب الدراويش: علاج الكبد والسرطان ببول الإبل"، حيث قال: "... أما في السودان فقد كانت المسألة أكثر جرأة، فقد تمت تحت مظلة أكاديمية. ونقلا عن أحد مواقع الانترنت المهتمة بمثل هذه المسائل الخرافية ـ ولم يذكر اسم الموقع ما يمثل مخالفة فجة للمنهج العلمي ـ فقد كشف عميد كلية المختبرات الطبية بجامعة الجزيرة السودانية البروفيسور أحمد عبدالله أحمداني عن تجربة علمية باستخدام بول الإبل لعلاج أمراض الاستسقاء وأورام الكبد، أثبتت نجاحها لعلاج المرضى المصابين بتلك الأمراض، وأضاف البروفيسور أحمداني في ندوة نظمتها جامعة الجزيرة أن التجربة بدأت بإعطاء كل مريض يوميا جرعة محسوبة من بول الإبل مخلوطا بلبنها حتى يكون مستساغا، وبعد 15 يوما من بداية التجربة كانت النتيجة مدهشة للغاية، حيث انخفضت بطون جميع أفراد العينة وعادت لوضعها الطبيعي، وشفوا تماما من الاستسقاء...".

ويستطرد خالد ساخرا بشدة: "... وبالطبع لم يفحص الدكتور العزيز الفهامة العلامة إنزيمات كبد أو خلافه، ولكنه لاحظ البطن وكأنها بالونة، واطمأن فؤاده عندما (فسَّت) البالونة! يا له من بحث علمي فريد.".

وربما أدرك خالد منتصر أن الفصل بين العلم والدين لن يتسنى له بمجرد إطلاق النداءات الصارخة أو بالبكاء على اللبن المسكوب أو بالسخرية والاستهجان. فقرر العمل بالقول العربي المأثور: لا يفل الحديد إلا الحديد. ولن يفل العمائم إلا عمائم مثلها. فاستحضر عدة آراء لبعض هؤلاء المنتمين للفكر الإسلامي، منها رأي الإمام الشاطبي، وقد أورده في كتابه المعنون بـ"الموافقات في أصول الشريعة"، حيث قال: "يجب ألا نلتمس في القرآن ولا في الحديث ما يخرج عن معهود العرب من العلوم والمعارف، وعلوم العرب مذكورة معروفة، كالعلم بمواقع النجوم وما يختص بالاهتداء بها في البر والبحر، والعلم بالأنواء وأوقات نزول الأمطار وانتشار السحاب، والعلم بالتاريخ وأخبار الأمم الماضية، وهذا الصنف من المعارف ذكره القرآن في غير ما آية...".

ومن الآراء التي عرضها خالد منتصر تؤيد رأيه ما أورده الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت مهاجما فكرة تفسير القرآن الكريم بالإعجاز العلمي، وذلك في كتابه المعنون بـ"تفسير للقرآن الكريم"، حيث قال: "... إن هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك، أولا: لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف؛ ثانيا: لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز ولا يستسيغه الذوق السليم؛ ثالثا: لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات...".

ثم استشهد خالد منتصر برأي الدكتورة بنت الشاطئ وقد أوردته في عدة مقالات صحافية ترد فيها على ما أثاره الدكتور مصطفى محمود من النظر في القرآن بتفسير عصري يستلهم العلم، كتبت فيها: "... الكلام عن التفسير العصري للقرآن يبدو في ظاهره منطقيا ومعقولا يلقي إليه الناس أسماعهم، ويبلغ منهم غاية الإقناع، دون ان يلتفتوا إلى مزالقه الخطرة التي تمسخ العقيدة والعقل معا، وتختلط فيها المفاهيم، وتتشابه السبل فتفضي إلى ضلال بعيد، إلا أن نعتصم بإيماننا وعقولنا لنميز هذا الخلط الماسخ لحرمة الدين المهين لمنطق العصر وكرامة العلم...".

وكتبت الدكتور بنت الشاطئ أيضا: "... الدعوة إلى فهم القرآن بتفسير عصري علمي على غير ما بينه نبي الإسلام تسوق إلى الإقناع بالفكرة السامة التي تنأى بأبناء العصر عن معجزة نبي أمي بعث في قوم أميين، في عصر كان يركب الناقة والجمل لا المرسيدس والرولزرويس والبوينج وأبوللو، ويستضيء بالحطب لا بالكهرباء والنيون، ويستقي من نبع زمزم ومياه الأمطار والآبار لا من مصفاة الترشيح ومياه فيشي ومرطبات الكولا!! ونتورط في هذا المنزلق الخطر، يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم، فيرسخ فيها  أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك والفارماكوبيا وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة فليس صالحا لزماننا، ولا جديرا بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصري...".

لكن رغم تجييش خالد لأقوال الإسلاميين المؤيدين له فإنه اضطر هو نفسه إلى عدم الثقة في النتيجة التي يرجوها من ذكر أقوالهم، لأنها لم تستطع زحزحة القائلين بفكر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم قيد أنملة عن مواقعهم، بل انتشرت الفكرة في قلوب المسلمين انتشار النار في الهشيم. واكتشف أن قدرة الحديد على فل الحديد لا تعني بالضرورة قدرة العمامة على فل العمامة. وأن القوة العظيمة القادرة على فعل ذلك هي قوة أخرى مختلفة تماما، ذات طبيعة مغايرة تماما، لا تضع على رأسها عمامة متخلفة، وإنما تضع برنيطة متقدمة.

إنها قوة العلمانية.       

فكتب خالد منتصر في كتابه هذا يقول: "... العلمانية ستسحب البساط من تحت أقدام المستفيدين من دعوة  الدولة الدينية والمنظرين لها، فهي تدعو لحوار الأفكار على مائدة العقل، وتعريتها من رداء القداسة الذي يغطيها به هؤلاء الدعاة للوصول إلى أهدافهم...".

لكنه ينتبه فجأة إلى أن العلمانية المصرية تحديدا: "... لم تؤسس مشروعا وإنما هي ردود أفعال". ويضرب مثلا توضيحيا لذلك: "... كما نلمس عضلة الضفدعة هكذا بقطب كهربي فتنقبض، هكذا كانت العلمانية، مقال ينشر في جريدة فيرد العلمانيون، حدث يجري في مكان ما فيهب العلمانيون...".

ومع ضعف ردود أفعال العلمانية المصرية التي في قوة انقباض عضلة ضفدعة ميتة بتأثير مس كهربي فإنه يؤكد على أنها ردود اأفعال مطلوبة بشدة.

ثم يقول بنمط خطابي لا يختلف كثيرا عن النمط الخطابي الأصولي: "... وحين نرفع شعار (العلمانية هي الحل) فلابد من أن ندفع ثمن هذا الشعار كما دفعه الغرب منذ القرون جهدا ودماء.. فالعلمانية لا تقدم على طبق من ذهب، أو تهبط هبة من السماء...".

ومع تحمسه للعلمانية التي تنظر للدين باعتباره ترسا في منظومة اجتماعية، أو باعتباره مجرد قطعة فسيفساء في لوحة، إلا أن هذا لا يمنعه من أن يكتب في "وهم الإعجاز العلمي" قائلا : "... صدقوني أكبر ضرر على الإسلام أن يروج لمثل هذا الكلام، وأكبر خدمة لديننا الحنيف هو تنقيته من مثل هذه الأحاديث ووضعها في مكانها وحجمها الصحيح...".

وأنا أرى أن أكبر خدمة لديننا الحنيف هي تفنيد عظات الثعالب الماكرة، في ذات الوقت التخلص من خدمات الدببة الغبية التي قد تقتل أصحابها في سبيل حمايتهم.

 

 

فوبيا العلم

 

هذا عنوان أحد كتب الطبيب المفكر خالد منتصر؛ وأول غرائبه هو صدوره في السلسلة (الطبية) لكتاب اليوم، مع أن الكتاب يفترض به أن يكون (فكريا). وكأن المنطق العلمي نفسه يسخر من الرجل الذي يطالب بفصل العلم عن الدين لأن الأول يتمتع بالمنهج العلمي. ولا نعرف المنهج العلمي الذي وافق المؤلف بأساسه على صدور كتابه الفكري في سلسلة طبية!

موضوع الكتاب هو نفس موضوع الكتاب السابق: علاقة الدين بالعلم وضرورة فضها، مع توجيه الإدانة لفكرة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

ولا يمثل ثبات المؤلف على موضوع واحد عيبا إذا كان مدار قضيته الأصيلة المؤمن بها. لكن العيب هو عدم تقديم دوافع مغايرة تسبغ على هذا الكتاب جدة مطلوبة لقراءة مقنعة وشيقة، هذا غير ثبات الصياغة والاستدلالات، حتى أن بعض الجمل والأمثلة هي نفسها هنا وهناك. وارتفع البناء على نفس الوتيرة: مجموعة مقالات سبق لخالد منتصر نشرها في مناحي مختلفة من الصحف والمجلات المصرية والعربية ثم وضعها بين دفتي هذا الكتاب.

إنها الأغنيات العديدة التي يؤديها حسن شاكوش على نفس اللحن.

بيد أن "فوبيا العلم" يتميز عن "وهم الإعجاز العلمي" بكثرة ما يحتويه من أغاليط.

كما يتميز بشيء آخر: تقديم حل جديد لأزمة الإنسانية المصرية المعاصرة يختلف عن الحل الذي قدمه كتاب "وهم إعجاز العلمي"، وكان: انتهاج العلمانية. أما الحل في "فوبيا العلم" فقد صاغه كالآتي: "... لا بد أن نسأل أيضا كيف حدث الحدث لا أن نسأل من أحدثه". و"... لابد أن يكون قوام الأخلاق السعادة لا الواجب". ثم يقول الخلاصة: "... لكي نولد من جديد علينا أن نجمع بين قيد العلم وانطلاقة الحرية، فبالعلم تتشابه المجتمعات وبالحرية تختلف".

 

 

 

غرفة اللقاءات التلفزيونية

 

في حلقة يوم 21 ديسمبر 2016م من برنامج "كل يوم"  الذي كان يذاع على إحدى الفضائيات المصرية. بدأ الإعلامي عمرو أديب الحلقة متكلما عن أهمية وضرورة موضوعها: (تجديد الخطاب الديني)؛ وكيف أن هذا الموضوع لا تجب إثارته في المناسبات أو عند مطالبة أحد المسؤولين بذلك وفقط، بل تجب إثارته في كل وقت؛ معتبرا تصعيد المطالبة بتجديد الخطاب الديني فرصة جديدة يمنحنا الله لمصر.

وبحسب تعبير عمرو أديب: "ربنا بيقوللنا ياللا شوفوا الدنيا حواليكم، العالم جوه وبره مصر، دا الوقت الفِكر يجب إنه يتغير".

فقام باستضافة خالد منتصر في تلك الحلقة باعتباره واحدا من المفكرين التنويريين القادرين على إحداث هذا التغيير الفكري.

 

ملعب الدين غير ملعب العلم.

سأل عمرو خالدا عما إذا كان تجديد الخطاب يعني أشياء أخرى جديدة ومفيدة غير الكلام عن سماحة الدين وقبول الآخر؟

أجاب خالد: طبعا، حصر الخطاب في أن الفقيه الفلاني قال والفقيه الفلاني الثاني قال. أو نطالب باستخدام الأحاديث (يقصد استخدامها في الاستدلال) أو نرفض استخدامها ونكتفي بالقرآن فقط. هذه النقاشات التي تحصل في برنامجك هذا الأسبوع مفيدة ومهمة وكل شيء. لكن هل تجديد الخطاب الديني، وهل هذا المنهج في التفكير، سيجعلان مصر تصنع الموبايل الذي تمسكه أو  الكاميرا التي تصورنا؟

 قال عمرو مؤكدا صحة كلام خالد: 70 و80 % من الأشياء مستورد.

خالد: طيب. أين حل المسألة؟ منهج العلم. ونحن لدينا منهجان، منهج العلم ومنهج الدين. هل منهج العلم هو منهج الدين؟ هل لو لم يبق الدين على العلم صار منتقصا؛ والعكس صحيح؟ هذا هو الاشتباك الذي نريد فكه الليلة. الناس يشعرون بأنه لو لم تقل إن هناك خلطا بينهما فأنت أهنت الدين بشدة.

عمرو: تصبح علمانيا.

خالد: نعم.. إنهم يطالبونك بتطبيق منهج الدين على العلم. لكن يجب معرفة أن للعلم منهج وللدين منهج. لهذا ملعبه وساحته، ولهذا ملعبه وساحته. وليس في هذا ما يهين الدين.

عمرو: تقصد أن تقول لنا ليس فكرة تجديد الخطاب الديني ما يجب أن نتكلم فيها فقط. بل نحتاج إلى الكلام عن الفصل بين العلم والدين. دعنا أولا نضبط أدمغة الناس على ألا يقتلون باسم الدين؛ لا تقتل. لا تسرق. لا كذا. لا كذا.

(وهنا أشير إلى مداخلة هاتفية لخالد منتصر في برنامج "كلام تاني"، حلقة يوم 14 أبريل 2017م، سألته فيها مقدمة البرنامج عن مفهومه لتجديد الخطاب الديني فأجاب بثقة: "الوطن أولا. الوطن نمرة واحد . القانون أولا"؛ ولم يقل شيئا عن ثانيا أو ثالثا أو رابعا أو أو).

فقال خالد لعمرو: هكذا سنتكلم في الفروع. لكني أرغب الليلة في الكلام عن الجذور. عندما أقيس بالكيلو متر، وأوزن بالكيلو جرام، هل هذا يعني أن الكيلو متر أفضل أو أسوأ من الكيلو جرام؟

عمرو: لأ . موازين ومسافات.

خالد: هذا أسلوب وهذا أسلوب. هذا معيار وهذا معيار. هذا منهج وهذا منهج. المنهج العلمي نسبي، وهذا سر قوته...

 

خالد منتصر ينقب عن البترول.

يواصل خالد منتصر كلامه: لنضبط المصطلحات أولا؛ ماذا تعني كلمة: علم؟ كثير جدا من مشاهدينا الآن سيجيبون بأن العلم معرفة. أو العلم تكنولوجيا. لأ . لقد استنزف وقت طويل حتى تم التوصل إلى تعريف جامع مانع للعلم، وقد توصل إليه فيلسوف العلم كارل بوبر؛ العلم: كل ما هو قابل للتكذيب. وتعال نضرب مثلا نقرب به هذا التعريف إلى المشاهدين: قال لي عمرو أديب: أنا أستريح نفسيا في هذا الأستوديو، وأكون فيه مثل طائر في الجو، وأحس بمشاعر رائعة. سأقول له: نحن هكذا لا نتكلم في علم. لأني لا أستطيع تكذيبك. أما إذا قال لي عمر أديب: تحت هذا الأستوديو بترول؛ فسأحضر المجسات وآلات الحفر، وبظهور البترول من عدمه أكذبك أو أصدقك. هذا هو العلم.

(وهنا وجب الإشارة إلى أنه بعد أسبوعين تقريبا من هذه الحلقة، وفي 12 يناير 2017م، وفي إحدى حلقات برنامج اسمه "قصر كلام"، وكانت بعنوان: "صناعة التطرف ببلدلة التنمية البشرية"،  قدم خالد منتصر نفس هذا التعريف العلمي دون محاولة تنويع في ضرب الأمثلة؛ حينما قال لمقدم البرناج محمد الدسوقي رشدي إنه لن يعتبر كلامه علما لو كلمه عن راحته النفسية في هذا الأستوديو، لكن لو قال له: تحت الأستوديو بترول، فإنه سيحضر المجسات وآلات الحفر وهي الأدوات التي ستكذب الخبر أو تصدقه.

وكانت المجسات وآلات الحفر جاهزة للعمل أيضا في لقاء مع خالد منتصر نظمه حزب المصريين الأحرار بتاريخ 28 مايو 2018م، بعنوان: "دولة فتوى أم دولة قانون؟"، أداره الدكتور محمود العلايلي. عندما قدم نفس التعريف للعلم القابل للتكذيب، فقال: ماذا أعني بأن العلم هو كل ما يقبل التكذيب؟ لو قلت للدكتور محمود العلايلي: إن مبنى حزب المصريين الأحرار الذي نحن فيه الآن أنا أحبه وأعشقه ولي فيه ذكريات؛ سيقول لي: أنت لا تتكلم بشكل علمي؛ لكن لو قلت له إن تحت المبنى بترول، سيحضر المجسات وآلات الحفر، ويكذبي أو يصدقني.

ثم اصطحب خالد منتصر المجسات وآلات الحفر إلى تونس في 11 سبتمبر 2019م، حيث جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية التي نظمت له ورشة نقاش حول موضوع: "ما الذي يجعل شبابا جامعيا ينزع إلى التطرف الديني؟". حيث قدم نفس التعريف بالعلم، وإنه لو قال له الدكتور نادر (مدير الورشة) إنه يحب هذه القاعة ويعشقها فلن يعتبر هذا الكلام علميا، لكن لو قال له إن تحت القاعة بترول، فسيستعمل المجسات وآلات الحفر وهي من تكذب القول أو تصدقه.

ولا يكتفي الطبيب المفكر خالد منتصر باصطحاب آلات التنقيب عن البترول إلى الأستوديوهات والقاعات فقط، بل يصطحبها إلى كتبه أيضا، حيث وجدتها حاضرة في كتابه "وهم الإعجاز العلمي".

فما سر ولع وشغف الرجل بهذا العمل (التنقيب جيولوجيا) الأبعد ما يكون عن الطب والفكر؟

وجدت السر في كتابه "فوبيا العلم" وهو يتكلم عن لقائه الوحيد بالدكتور زكي نجيب محمود في بيته القريب من سفارة الكيان الصهيوني المحتل الموجودة في الجيزة. وكان الدكتور الفيلسوف يقدم للشاب الجامعي خالد منتصر إجابة لسؤاله عن الفرق بين العلم والدين، فقال القيلسوف الراحل: العلامة الفارقة والفاصلة بين ما هو علم وبين ما هو غير علم هي قابلية الحكم بالصواب والخطأ، فإذا كان القول يمكن أن يوصف بأنه صواب أو خطأ فإنه يدرج في مجال المعرفة العلمية، مثل قولنا: "الأرض فيها بترول"؛ أما إذا كان القول مما يستحيل وصفه بالصواب أو الخطأ إلا على قائله الوحيد الذي يزعم له الصدق دون أن يستطيع الآخرون مراجعته مثل قول: "هذه الأرض محببة إلى نفسي".

وأخال أن خالد منتصر يومها اشترى المجسات وآلات الحفر.

ثم عندما دارت الأيام، وكبر، وأراد التفرغ لمعالجة آفات المجتمع المصري في غرفة عملياته خصص مخزنا صغيرا لحفظ هذه الآلات إلى حين يحتاجها.

وكنت حدثتكم في أول هذا الكتاب الذي بين أيديكم عن هذا المخزن ووعدتكم بالكشف عن سره في الفصل والورقة المناسبين؛ وها قد فعلت).

والآن نعود إلى تكملة حوار خالد منتصر مع عمرو أديب.

 

خطورة الربط بين العلم والدين.

بعد استدراكات تؤكد على منهجية العلم تساءل خالد: ما هي خطورة هذا الربط؟ أو خطورة ما نسميه مؤتمرات الإعجاز العلمي. والظن بأن كل شيء موجود في كتبنا الدينية، و. و. و. إلى آخره؟

عمرو: هل أنت ضد ما يسمى بمؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن؟

خالد: أنا ضده في كل الكتب الدينية. لماذا؟ لأن الكتب الدينية كتب هداية. ليست كتب بيولوجي أو أحياء أو فيزياء أو كيمياء. ولست أول من يقول هذا الكلام. بنت الشاطئ خاضت معركة كبيرة مع مصطفى محمود.

عمرو: كان الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله، واحدا من رواد الإعجاز العلمي في القرآن.

ثم قال خالد منتصر إن هناك خطر شديد في الربط بين العلم والدين، وإن أوروبا قد جربت هذا الخطر، وإنها لم تتقدم إلا عندما فصلت بينهما. وضرب أمثلة لاضطهادات الكنيسة للعلماء وتعنتها في التعامل مع المستجدات العلمية مستندة في ذلك إلى آيات من الإنجيل. ثم عرج على فتوى متعنتة للشيخ السعودي ابن باز كان قد أفتى فيها: القول بأن الشمس ثابتة وأن الأرض دائرة هو قول شنيع منكر، ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب، وإلا قتل كافرا ومرتدا...

(هنا ينبغي الإشارة إلى أن خالد منتصر قد أورد فتوى ابن باز أيضا في كتابه: "وهم الإعجاز العلمي". في ثلاثة مواقع مختلفة بنفس الصيغة، دون كلل منه أو ملل!).

ويستطرد خالد:... واختلاف رؤية الهلال في الدول الإسلامية، في حين أنه بالحسابات الفلكية العلمية البسيطة يمكن معرفة توقيت قدوم رمضان بعد ألفين سنة.

 

العلم والدين في إيران.

أضاف خالد منتصر: كل هذا يؤكد على أننا لا نزال نعيش في عصر النظر إلى العلم بمنظار الدين... ولو أن مع تفكيرنا السلفي أو الوهابي نستطيع اختراع الموبايل وغيره لكانت الأمور على ما يرام... ولرضينا.

عمرو: ها هم الإيرانيون يمتلكون قنبلة ذرية مع أنها دولة دينية.

ارتبك خالد منتصر لملحوظة عمرو أديب.

فعلا؛ ها هي إيران لم يعقها نظام حكمها الإسلامي عن الأخذ بالوسائل العلمية والتقدم في أخطر العلوم. فقال بنبرة صوت متعجلة من أجل تجاوز هذه الملحوظة النابهة التي قد تقوض فكرته على الهواء مباشرة وتحت مرأى ملايين المشاهدين: حلو، وتمام التمام، وكويس أوي. لكننا لن نخترع الموبايل أو غيره إذا كنا سنتستمر في التفكير بهذه الطريقة. سأعطيك مثالا (يدلل بالمثال على خطورة الربط بين الدين والعلم).

(هنا نود الإشارة إلى أن خالد منتصر في لقائه بحزب الدستوريين الأحرار أكد على فكرة مفارقة المتدينين للعلم؛ حيث قال: في دولة العنعنة ـ والعنعنة هي سند الأحاديث الشريفة ـ لن يحدث أي تقدم علمي؛ وأضاف بمنتهى الثقة: الدولة الدينية لا تستطيع اختراع شيئا).

ـ طيب وإيران يا مولانا!

 

علم الحانوتية.

واصل خالد: هناك مرضى غير قادرين على زرع أعضاء من ميت حتى هذه اللحظة. ظللنا 25 سنة نناقش القانون، وتم وضعه، لكننا لا ننفذه انتظارا لرأي الدين. فكلما هممنا بالاقتراب من أحد الموتى إكلينيكيا يعارضنا الدين، لأن تعريف الموت فقهيا هو انخساف الصدغين وتوقف القلب وتدلي اللسان، وهكذا.. أرى أن هذا تعريف الحانوتي للموت. ما ذنب آلاف المصريين الذين ينتظرون زراعة كبد لهم، وفي رقبة من؟ كيف نقضي على مشكلة تجارة الأعضاء؟ ليس من حل إلا بنقل أعضاء الميت إكلينيكيا. لقد صدر قانون نقل الأعضاء قبل ثورة يناير مباشرة في وزارة حاتم الجبلي، مع ذلك حتى الآن لا يزال وزير الصحة يطلب من لجنة زرع الأعضاء أخذ رأي المفتي! إننا نعود إلى المربع رقم صفر بعد ربع قرن من المناقشة. زرع الأعضاء مسألة طبية لا دخل بها للمفتي ولا لشيخ الأزهر ولا لغيرهما.

(هنا يجدر بنا لفت انتباهك عزيزي القارئ إلى أن خالد منتصر قد أشار إلى نفس الموضوع في حلقته ببرنامج "قصر كلام"، والتي نوهنا إليها سابقا، فقال مستهجنا: إننا ننتظر رأي الشيوخ في مسألة علمية بحتة ليست من اختصاصهم).

 

شعوب متدينة بطبعها.

قال عمرو أديب لخالد منتصر: سأسألك سؤالا قد يبدو ساذجا: أليس هناك شعوبا متدينة يحكم الدين عملها؟ أعني الناس يستيقظون صباحا فيقولون: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم؛ يقرأ الواحد منهم أدعية، ويشغل القرآن. إنها شعوب في المنطقة تريد أن تخشى الله، وأن تقوم بأعمالها بشكل لا تؤاخذ عليه. هنا العلاقة موجودة بين الدين وبين الحياة. أنا أريد إذا بعت أن أبيع حلالا، وإذا اشتريت أشتري حلالا، وإذا زرعت في جسمي أزرع حلالا، ولما آكل آكل حلالا، ولما أذبح أذبح حلالا. الذبح ليس عملية دينية، لكن الناس يهتمون بأن يكون ذبحا حلالا. هنا الدين يدخل في الحياة. لا تستطيع فصله لدى شعوب العالم الإسلامي كله. لازم تضع هذا في الاعتبار.

خالد: الدين له دور. الدور الوجداني الذي يمنحك راحة نفسية. لما اقرأ القرآن، لما أقول: سبحان الله. لما أقول: يا فتاح يا عليم أشعر براحة تفسية. لكن طبيا أرجع لكتب فقهاء قالوا شيئا في الطب قبل ألف سنة وأحاول تطبيقه الآن بدعوى إنه طب نبوي!؟ هنا المشكلة. الحجامة مثلا، يقومون بتشريط الجلد وأخذ الدم في كأس. المفروض أن يوضع تعريفا قانونيا للحجامة: إحداث جرح عمدي غير طبي.

عمرو: هذه جريمة.

خالد: إنها جريمة. مع ذلك هل يستطيع وزير الصحة أو غيره إغلاق مراكز حجامة تعلن عن نفسها في الإعلانات؛ مركز الحجامة تليفون كذا كذا كذا، وبرامج تلفزيونية تذاع في مجتمع يعاني من فيروس سي، وأنت تخشى مهاجمة هذه المراكز حتى لا يتهموك بالكفر. ليس هناك طب اسمه الطب النبوي، ولكن هناك طب مورس في عصر النبي. ولو كان الرنين المغناطيسي في عصر الرسول لكان استخدمه.

عمرو : كنا سنقول إنه طب نبوي.

 

بلح طبي.

قال خالد منتصر: لكن أن تنظم مؤتمرات، وتقول إن الحجامة تعالج 88 مرضا، أو 90،  وإن الحجامة لا تتم إلا أيام 17 و19 و21 من الشهر القمري، ثم تريد إثبات أن هذا الكلام علمي! أنا أوجه سؤالا لأي طبيب درس الطب: ما علاقة أيام 17 و19 و21 في الشهر الهجري بالدم الفاسد؟ ليس هناك دم اسمه الدم الفاسد. انتهى العلم من هذه المسألة. ليس هناك دم فاسد. إنها الدورة الدموية التي اكتشفها ابن النفيس. العلم هو العمل على ملاحظات من الواقع، لكننا نقوم بعمل العكس: نفتعل الملاحظات من أجل تعشيقها دينيا!

وذكر خالد مثالا توضيحيا يبين مدى أهمية دور الملاحظة في تحقيق الطب، والكشف عن بعض العلاجات مثل الإسبرين ومضادات البكتريا وعلاج الجدري.

ثم ضرب مثالا يوضح كيفية افتعال الملاحظة لتعشيقها دينيا. فقال: لدينا حديث يقول إن من يصطبح بأكل سبع تمرات لا يصاب بالسم؛ وهو حديث منتشر ومعروف؛ هل هذا يسوغ لي أن أقول لك: تعال يا عمرو نعمل بحثا علميا، ونجلب ثعابين كوبرا ونجعلها تلدغ الناس ثم نعطي لكل ملدوغ سبع تمرات، ونسمي هذا بحثا علميا! نفعل كل ذلك لا لشيء غير افتعال ما نثبت به صحة الحديث علميا! المسألة سهلة جدا، علينا الإقرار بأن هذا الحديث ابن زمانه وبيئته ومكانه.

عمرو: هل ترى أن أحدا مقتنع بهذا الآن؟ أعني لو أن طفلا لدغته حية هل سيجري أبوه به إلى المستشفى أم سيطعمه سبع تمرات! أقصد الناس حصل لهم تطور.

خالد: أنا أقصد المنهج. وقد ذكرت لك مثالا موجودا إلى الآن، ألا وهو الحجامة. ومن يؤمن بهذا المنهج لا يؤمن وفقط. هل تعرف ماذا يقول لك لو حاورته؟ يقول لك: لو أن نيتك تشفى بالتمر ستشفى فعلا! أين القياس؟ بأي مقياس تعاير كمية الإيمان؟! بالجرام أم بماذا! ومن يموت فهو مات لأن إيمانه كان ضعيفا! المسألة منهج تفكيري.

 

ما وراء الطبيعة.

قال عمرو أديب: فاصل إعلاني ونعود لنرى حياتنا على الأرض. كيف نستطيع إقناع الناس بهذا الكلام. دول عديدة تأخد الدين باعتباره قوة. ونحن لدينا دافع أكيد لأن يجعل ديننا الحياة أفضل. أليس الدين قوة روحية أيضا؟ جائز أن هذه القوة الروحية تجعل المرء يقتنع بأن التمر يشفيه، ويشفيه.

خالد وهو يبتسم: صح، صح.

عمرو: أشياء كثيرة جائزة. جائز وجود أشياء فوق العلم. ما فوق الطبيعة. جايز الدكتور خالد بعلمه لا يعرف كيفية قياسها. أمور كثيرة تحدث لا تستطيع قياسها. لا تستطيع فهمها. جائز أن تكون أنت من لا يعرفها. لا تدركها.أسئلة في أدمغة الناس تسألها الآن. كيف تهز ما هو مقدس الآن! لقد قلتم أن هذا مقدس ثم تجيئون الآن وتقولون غير ذلك؟ لا يجوز.

نظر خالد منتصر إلى عمرو أديب نظرات محبطة. وغمغم.

 

اللحية تثير العضو الذكري جنسيا.

بعد الفاصل: عُرِض على الشاشة الداخلية في الأستوديو جزء من برنامج لإحدى القنوات الفضائية الدينية، أظهرت الكاميرا عمرو أديب وخالد منتصر يشاهدان هذا الجزء:

رجل ستيني يرتدي بذلة أنيقة ويتكلم عن علاقة إعفاء اللحية بالقدرة الجنسية عند الرجال، قال إنه بعد الدراسة: وجدوا نتائج ممتازة في علاقة الضعف الجنسي بإعفاء اللحية.

نسمع صوت مذيع البرنامج الديني وقد راقه الكلام: سبحان الله!

أضاف الضيف: إعفاء اللحية بينشط التيستستيرون الذي هو هرمون الذكورة. التيستيستيرون يزيد عند الرجال إذا هم تركوا اللحية وأعفوها.

انتهت اللقطة المنتقاة وظهر عمرو أديب مندهشا وهو يقول لخالد: لا بد أن تشرح لي لأني لا أصدق ما سمعته!

خالد: هذا الرجل يُقدَّم باعتباره عالما قادما من أمريكا، وهذا المذيع هو ابن الشيخ الراحل الشيخ الشعراوي. وكان في أحد القنوات الدينية. الرجل يقول باختصار إنه كلما أطلت لحيتك زادت قدرتك الجنسية.

عمرو مستظرفا: هذا شيء جيد، ما الذي يضايقك منه!

يضحك خالد قائلا: يا ليت، يا ليت. ليت إعفاء اللحية يحقق هذا.

يقاطعه عمرو: حضرتك جربت!

خالد: الحقيقة لأ. لم أعرف كيف أطيل لحيتي.

عمرو: أعني لماذا لا تخضع هذا الكلام للتجربة، تربي لحيتك وتلاحظ قدرتك الجنسية كيف ستكون.

خالد: كيف يمكن لإطالة شعر اللحية أن تزيد من هرمون التيستستيرون! هذا ضد كل ما درسناه في كليات الطب. هذا كلام عبثي. هناك ما يخضع للمناقشة وهناك ما هو عبثي.

عمرو أديب مستظرفا أيضا: هذا أرخص من الفياجرا. فقط طَوِّل لحيتك.

خالد: تصبح أقوى جنسيا. أما من قضوا السنوات كي يتوصلوا للفياجرا..

عمرو متهكما: ربما الفياجرا مؤامرة غربية يا افندم..

خالد متهكما بدوره بينما يدق بمؤخرة قلمه سطح المنضدة: مؤامرة صليبية صهيونية علمانية وكل هذا الكلام الذي تعرفه... من يقرأ قصة اختراع الفياجرا...

عمرو مقاطعا: كان دواء للضغط...

خالد: نعم، لكنهم لاحظوا.. ها هي ملاحظة الواقع.. أن من يتناول هذا القرص تصبح قدرته الجنسية أفضل.. ويكتبون ملاحظاتهم.. لا لحية ولا عدم لحية. إذا سيطرت علينا مثل هذه الأفكار ستسقطنا في فضائح..

 

كفتة عبدالعاطي والإعجاز العلمي.

استطرد خالد: هناك فضائح. سأعطيك مثالا سأعلنه لأول مرة في برنامجك. الجهاز الذي اخترعه عبدالعاطي.

عمرو أديب بنبرة جادة لكنها مضحكة: بتاع الكفتة.

خالد: بتاع الكفتة. والذي كان مثار الأحاديث، وكنت أول من كتب عنه في ثاني يوم بعد الإعلان عنه، ودخلت معركة لمدة ثلاث أربع شهور.

عمرو: الجهاز الذي قيل إنه سيعالج الإيدز وفيروس سي.

خالد: نعم.. عبدالعاطي كان أمين معمل في جامعة الإسكندرية.. طيب.. هل تعرف أنه بعد البحث والتقصي اكتشفنا أن أساس المسألة الإعجاز العلمي!

عمرو: هذا الجهاز إعجاز علمي للدين تعني؟

خالد: دكتور زغلول النجار قال إن في سورة الحديد سر. قال هذا في أحد كتبه. وكان عبدالعاطي مقدما لأحد البرامج في إحدى القنوات الدينية، وتناول موضوع الإعجاز العلمي مكررا كلام زغلول النجار. وذهب وأقتنع... وكانت أكبر عملية ما يسمونه في الغرب (علم زائف). وقد دافعت عن سمعتنا وسمعة المؤسسة العسكرية.. والحقيقة أن دكاترة من أساتذة الجامعات شرعوا في كشف هذا الزيف، لكني قلت في أحد البرامج: يا جماعة لا يجب أن يكونوا دكاترة الجامعة، لماذا لا تلجأوا لدكاترة الجيش؟ وفعلا دكاترة الجيش نظموا مؤتمرا وأثبتوا زيف هذا الجهاز. .

عمرو: لم يعد جهازا يأخذ فيروس سي ويخرجه كفتة.

خالد: هل مر هذا الموضوع الهذلي على المجتمع العلمي الدولي بسلام؟ أنا أشارك في مؤتمرات عديدة للتغطية أو للحضور. كان أستاذ الكبد المصري في منتهى الخجل. لأنه كان يُنهَش سخرية.

عمرو: بعد ذلك أصبحت مصر أكبر دولة تعالج فيروس سي في المنطقة بالدواء.

خالد: هذا الدواء اكتشفه يهودي مصري، طرد من مصر وهو طفل؛ لكن العلم محايد. عندما اكتشف هذا الدواء لم يقل إن المصريين طردوني وسأنتقم منهم. ليس في العلم مشاعر. العلم محايد جدا. العلم يحمينا من فضيحة مثل فضيحة عبدالعاطي.

 

بول إبل زغلول النجار والإعجاز العلمي.

ثم عُرِض جزء من لقاء تلفزيوني للدكتور زغلول النجار قال فيه: طبعا، حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، إنه يوصي بالتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وأنا أقول إن هناك شركات للأدوية في سويسرا لا نريد أن نسميها حتى لا يكون هذا إعلانا لها أنتجت أفضل أنواع الأدوية لأمراض القلب وأمراض العقم وأمراض الكبد من الأبوال.

سأله المذيع: هل من مانع قانوني لتسمية هذه الشركات؟

أجاب النجار: لا أريد أن يكون البرنامج إعلانا لها.. شركة اسمها ـ تقريبا قال: سيرن ـ لم أستطع سماعها بشكل جيد ـ إذا لم يكن مانع من إذاعة اسمها. وهاتفني أستاذ بكلية طب جامعة القاهرة وقال: أريد أن أقابلك؛ والتقيته. قال: أنا أستاذ في أمراض الكبد، وجاءني في يوم من الأيام فلاح ريفي بسيط يعاني من سرطان في الكبد وعالجته بالأدوية التقليدية؛ وقال: أشفقت عليه لأن الأدوية مكلفة جدا، ولم أر تقدما في حاله. ففي لحظة يأس قلت له: لماذا لا تجرب ألبان الإبل؟ استحييت أن أقول له: أبوال الإبل، حتى لا تعافها نفسه. لماذا لا تجرب ألبان الإبل؟ فقال المريض: من أين أحصل عليها. فقال له: في حي اسمه إمبابة جنوب القاهرة يوجد سوق للإبل. اذهب إلى إمبابة واشتري شيئا من اللبن. قال: والله جاءني بعد شهر من الزمن وكأنه إنسان آخر. عافاه الله تعالى معافاة كاملة مما كان يعانيه، لدرجة أن مدير الشرطة في إمبابة اتصل بي وقال: ماذا فعلت بي؟ الناس الآن يقتتلون على ألبان الإبل كما تقتتل على أي ضرورة من ضروريات الحياة.

المذيع: ألبان الإبل وأبوالها.

زغلول النجار: نعم. حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

المذيع: وقد استخرج من هذه الأبوال..

زغلول متمما: مركبات تعالج مثل هذه الحالات بنجاح كبير.

وانتهى المقطع

 

علم زائف.

عمرو: جائز يعني. معظم الأدوية مركبة من أشياء عضوية. ممكن من ألبان الأبل. ممكن من بول الإبل. أنت قلت لي إن مكتشف علاج الجدري اكتشفه في ألبان البقر.

خالد: لأ. أنا قلت هو تساءل: لماذ حالبات الأبقار من بين كل الناس لم يصبن بالجدري؟ من هنا بدأ يكتشف العلاج.

عمرو: فالرجل هنا بدأ أيضا من أن ألبان الإبل أو بول الإبل يمكن أن يكون فيها ترياق، هذا رجل كان عنده سرطان في الكبد.

خالد: هو طبعا بداية. لكن أتحدى أن تكون هناك شركة سويسرية ركبت دواء من بول الإبل وعالجت به سرطانا أو غيره. وأعلن هذا التحدي على الهواء. وليأتني أحدهم باسم الشركة الذي أخفاه دكتور زغلول النجار. من صفات العلم الزائف سرية أسماء الشركات التي يذكرونها. لكن العلم مثل الزواج: علني. وهناك مجلات محكمة... لكن أقول إن هناك حديثا. هذا إهانة للدين.. أقول لك هذا يهين العلم ويهين الدين. لم يعد هناك دواء يعالج عضوا. ليس هناك دواء يعالج الكبد. هذا الكلام وُضِع في متحف التاريخ. الدواء الآن يعالج خللا. أعني دواء السوفالدي يدخل على جزء معين من الفيروس محدد بالرقم ويكسره ويكشفه للعلماء.

عمرو: رجاء تحمَّلني. أستاذ أمراض الكبد قال إن المريض شرب أبوال الإبل وعاد إليه بالشفاء. هل تعني أن الدكتور زغلول النجار يكذب؟

لم يحر دكتور خالد جوابا، وإن كانت عيناه تقولان بصوت عال إن الدكتور زغلول النجار يكذب طبعا.

استطرد عمرو: الرجل قال إن الرجل عنده سرطان في الكبد وفقير، ومأمور قسم إمبابة حضر القصة وقال له: يا دكتور الناس بتتهافت عندنا على لبن الإبل.

خالد: انظر. الحكايات كثيرة جدا. هناك حكايات في الأعشاب وأخرى في بول الإبل وفي غيرها. دائما المناطق الغامضة في الطب يحصل فيها هذا الدجل..

عمرو : تقصد الأمراض التي ليس لها علاج.

خالد: هل سمعت صوت أحدهم عندما وجدت هذه الأدوية الجديدة؟

عمرو: لأ. انتهينا.

خالد: تمام.. لكن مثل هذا الكلام لا يجب أن يقوله الدكتور زغلول النجار. المفروض يركز في الجيولوجيا. لكن مؤتمرات الإعجاز العلمي الآن بتكسب مليارات.

 

حرب البزنس المقدسة.

عمرو: أسمح لي أتكلم بجرأة بعض الشيء. مشاهدونا الآن قد يقولون إن الدكتور زغلول النجار يستند في موضوع الإعجاز العلمي إلى أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا ينطق عن الهوى، فكل كلامه صحيح.

خالد: أطمئنهم دينيا. رغم أني لست فقيها، لكني أفكر. عندما كان الرسول يُسأل دائما: أهو الرأي أم الوحي؟ أعني عندما كان يحفر..

قاطعه عمرو: نعم عندما كلموه في النخيل.

قال خالد: حتى في الحرب وفي الزراعة وفي أي حاجة. كانوا يسألونه: أهو الرأي أم الوحي؟ فماذا يعني هذا؟ يعني أن هناك شيئين (يقصد جانبين لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام). إذن أمور كثيرة جدا من الممكن أن تكون بنت ذلك الزمان وأفكاره وبيئته. ودعني أعكس السؤال: لماذا طب ذلك الزمان من بين كل النشاطات ما أطلق عليه مسمى الطب النبوي. لماذا لا نتمسك بالنقل النبوي. وكان الجمل.

عمرو أديب: والبيت النبوي.

خالد: والهندسة النبوية هي هندسة الخيمة، ونتمسك بالهندسة النبوية. لأ. لكن نتمسك بالطب النبوي لأنه بزنس. ألفت انتباهك إلى أن هذه الأزمة ليست نتيجة الدفاع عن الرب، وإنما للدفاع عن البيزنس. من يدافع يدافع عن النصف مليون جنيه التي سيحصل عليها بعد انتهاء رحلة الحج. يدافع عن قصره في التجمع. يدافع عن الـ4 by 4. بيدافع عن كذ وكذا. عن ما كسبه بعد أن تحول من طالب كلية ألسن إلى داعية. بعد أن رفع هذه اللافتة بدأت الملايين تنهمر. إذن نحن نحارب بيزنس، لا نحارب واحدا (ياعيني) قلبه على الدين. فأنا أطلب من الناس ألا يقلقوا وينتقدوا المسألة، فنحن في معركة صريحة ضد البزنس. وهكذا لا غضا     ضة أبدا في أن نقول إن كل الأحاديث المتعلقة بالزراعة أو بالطب أو أو هي بنت زمانها. وعلماء دين قالوا ما نقوله، على رأسهم عبدالمنعم النمر في كتابه "الاجتهاد".

(ويبدو أن مواجهة البزنس ـ الإسلامي تحديدا ـ هو الدافع الرئيس الذي حث الطبيب المفكر خالد منتصر لخوض غمار حرب البزنس المقدسة، فهو لم يطالب بمواجهة هذا البزنس في لقائه بعمرو أديب وانتهى الأمر، بل كرره في لقاءات أخرى؛ مثل  ذلك اللقاء الذي أجراه بحزب الدستوريين الأحرار، وقال فيه بشكل أكثر تركيزا: هناك صراع قادم مع السلطة الدينية، صراع قوي... السلطة الدينية لن تتنازل بسهولة لأنها لا تدافع عن الرب، ليست قضيتها الدين أو الله، وإنما قضيتها البزنس.

وأضاف: السلطة الدينية تريد المحافظة على البزنس الذي أصبح بالمليارات.

وضرب مثالا لكيفية تنامي أموال رجال الدين المسلمين، فقال: الشيخ زمان كان يقرأ في الصوان فيقبض 50 أو 25 جنيه. كان هذا سقفه، الآن الشيخ يعمل بزنس من تأشيرات العمرة يمكن أن يصل لنصف مليون جنيه، من الحج نصف مليون، و4 by 4، والقصور في التجمع ومدينة 6 اكتوبر، والأسماء معروفة.

ولا يكتفي الرجل عن إعلان هذه الحرب في لقاءاته التلفزيونية المكررة، أو في الندوات، ولكنه يؤكد على ذلك بمنتهى القوة في معظم كتبه ومقالاته، درجة الإلحاح).

 

المزدري الأعظم.

سأل عمرو أديب خالد منتصر: لقد تعرفنا على جوانب القضية، ماذا نفعل لتتغير أفكار الناس؟

خالد: ليس أمامنا سوى تشجيع التفكير النقدي. الانتقاد بكل جرأة. وألا يعتبر نقد الدين ازدراء. أقول بوضوح إن تطور الحضارة صعد على سلم الازدراء. جاليليو كان مزدريا، كان المزدري الأعظم.

(وهنا أحيلك عزيزي القارئ إلى مقترحين عرضهما خالد منتصر في لقائين آخرين لكيفية انتقاد هؤلاء المتطرفين؛ أحدهما في حلقته ببرنامج "قصر كلام"، والاقتراح هو: مناقشة المتطرفين وإزعاجهم بالعلم، لأنهم لن يستطيعوا الرد؛ أما اقتراحه الثاني فقدمه في لقاء حزب المصريين الأحرار، عندما طلب من الحاضرين الدخول للمتطرفين من التاريخ، لأنهم لن يستطيعوا الرد.

ثم أضاف وسيلة ثالثة يمكن بها محاربة المتطرفين وذلك في لقائه بورشة تونس المخصصة لمناقشة أسباب ظهور التطرف، عندما قال: السلفيون عموما يخشون العلم والفن. العلم نسبي يهاجم المطلق لديهم، والفن يشارك الدين في تشكيل الوجدان.

وهكذا أمكنه بسهولة أن يصدر حكما قطعيا: لن نجد فنانا مبدعا يطلع من جماعة سلفية على الإطلاق).

ونعود للقاء خالد منتصر بعمرو أديب.

قال عمرو: التفكير النقدي تعني.

خالد: لكن هم يصفون هذا التفكير بالازدراء. ثانيا تحديد كلمة العلم والعالم. الأحاديث والفقه وغيرها هي معارف. وهناك فرق بين المعارف والعلم. هل يقبل رجل الدين تطبيق الشروط العلمية على كلامه؟ لو وافق فنحن إذن نتكلم في علم. أعني هل يقبل عالم حديث أن أطبق شروط علم الإحصاء على أحاديث أبي هريرة، لنرى كم روى كم حديثا، وفي كم من الزمن، أم أنه سيقول لي: لأ، ده علم السند.

عمرو: هذا علم ثان.

(في لقاء خالد بحزب الدستوريين الأحرار صرح بأنه لا يعتبر علم الحديث علما، لأنه لا يقبل التخطئة والتكذيب).

 

التقييم: صفر.

خالد منتصر لعمرو أديب: هذا علم ثان، إذا اتفقنا سنضبط بعض العلوم. لكن لا تقل لي إن ذاكرة العرب حفظت الأحاديث 150 سنة. تعال نناقش الأمر علميا، لا تفزعني وتزعق وتقول: لا يمكن الشك في ذاكرة العرب لأنهم كانوا حفاظا.

وعرج على طفولته للاستدلال على كره الطبيعة المصرية والعربية للنقد. قال: وأنا طفل في الصف السادس الابتدائي أتذكر أن مدرس التاريخ كلمنا عن الأسلحة الفاسدة، وأنها كانت تطلق الرصاصة إلى الخلف فتقتل مستخدمها. فرفعت يدي طالبا التعقيب، وقلت له إنني لا أتصور أن هناك سلاحا يطلق رصاصاته إلى الخلف؛ فالمدرس أعطاني صفرا، لأني لم أتبع منهج الوزارة.

عمر أديب: العقل النقدي غير موجود.  

 

العقل النقدي.

خالد: لدينا خوف من العقل النقدي، في المدرسة نخاف من العقل النقدي، في الإعلام نخاف من العقل النقدي، ربما كسرت أنت التابوه في هذا الأسبوع والأسابيع التي قبله، وبدأت الناس تتكلم، صحيح أنت تُهاجَم، وانا أُهاجَم، لكن التنوير ليس عملية بدون ألم.

عمرو: ألفت انتباهك أيضا إلى أن الأحداث شاركت وجعلت الناس ترى المشكلة. نحن فجأة في مواجهة مع المشكلة، إما نتكلم وإما نموت.

خالد: هناك ما هو أخطر. شكلنا صار سيئا. العلم يتقدم. نظرية التطور مثلا. أنا درستها في المرحلة الثانوية، ولا أحد يتكلم عنها الآن لأنها صارت حقيقة غير قابلة للنقاش، ماذا يفعل الآن شيوخ الأزهر ورجال الدين؟

عمرو: قصة نشأة الكون.

خالد: نظرية الانفجار العظيم ونظرية التطور، بابا الكاثوليك قال كلاما صادما لكثيرين، وأكد على صحة هذه النظريات وأنه لا يستطيع رفضها. هناك أعضاء في جسم الإنسان كالزائدة الدودية وضرس العقل لا سبب لوجودها لو قرئت في سياق غير نظرية التطور، إلا إذا كانت فائدتها لأطباء الجراحة والأسنان كي يستفيدوا منها ماديا. والمشكلة أيضا أن الإعلام لا ينشر الوعي العلمي.

عمرو: آخر حاجة عندنا في الإعلام الكلام في العلم، نتكلم في الرياضة في الفن في الجريمة، إنما العلم..

خالد: يبدو أن الكلام في العلم جهم وثقيل. ولا بد من تقديم العلم بطريقة ممتعة وجذابة...

 

تعريف المثقف.

يستطرد خالد: أصبح الآن تعريف المثقف أنه هو الذي يذهب لمشاهدة الباليه أو المسرح والسينما. لكنه لا يعرف شيئا عن آينشتين، ولا عن ستيفن هوكينج، ولا يعرف شيئا عن الجاذبية أو نظرية الكم . فالمسألة الآن هي: يا تعليم، يا إعلام، هل تريدون بالفعل الأخذ بأيدي الناس إلى العلم؟

(في لقاء الطبيب المفكر خالد منتصر بمقر حزب الدستوريين الأحرار صرح بأنه بينما ينقب في كتاب الدين الإسلامي للصف الثالث الإعدادي، اكتشف أن هذا الكتاب يعلم الأطفال أن التماثيل حرام والأوثان رجس من عمل الشيطان.

وخاطب وزير التعليم قائلا: يا وزير التعليم، هذا التعليم سيجعل الطفل يحطم تمثال نهضة مصر، أو يجعل طفلا في الأقصر يحطم تماثيل معبد الأقصر. وقد تغطى التماثيل وتحطم كما حدث أيام حكم الإخوان).

 

   

 

 

في تونس الخضراء

 

المكان: جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية بتونس.

الزمان: 11 سبتمبر 2019م.

الحدث: انعقاد فاعليات ورشة نقاش في محاولة للإجابة على السؤال التالي: ما الذي يجعل شبابا جامعيا ينزع إلى التطرف الديني؟

في محاولات للإجابة عن هذا السؤال قال الطبيب المفكر خالد منتصر: نحن الوحيدون المنفردون بأن تعصبنا وتطرفنا قائم على نصوص. نحن نملك نصوصا تحرض على القتل.

وأضاف: لا بد وأن نواجه أنفسنا ونقول إن هناك عيوبا اعتذرت عنها الأديان الأخرى بمنتهى الشجاعة.

ثم كشف عن السبب الأهم الذي يجعل مصر منبع التطرف، وقد اعتبرها الرقم الصعب بمعادلة التغيير الفكري في الوطن العربي. قال: حتى نعرف مدى الصعوبة التي تعانيها مصر من أجل أن تتغير فكريا فإن لدينا 10 آلاف معهدا أزهريا في ربوع مصر، و2.5 مليون طالب أزهري.

ما قاله خالد منتصر في تونس كان تأكيدا على ما صرح به سابقا في لقائه بحزب الدستوريين الأحرار، عندما قال:... مصر هي الرقم الصعب في التحول من الأصولية إلى العلمانية. أصعب حتى من السعودية. ففي الثلاثين سنة المنقضية تغولت السلطة الدينية حتى أصبح لها مدرسة دينية ومعهد أزهري في كل قرية. ثانيا: هناك ميزانية للسلطة الدينية بلا سقف. ثالثا: وهي الطامة الكبرى، هذا السياج والحماية من الدستور للسلطة الدينية، ما يسمح لها بالتغول أكثر وأكثر وأكثر.

 

معركة الطلاق الشفاهي.

يضيف خالد منتصر بحرقة في لقائه بالدستوريين الأحرار: نحن أمام دولة داخل الدولة. كيف فات على الدولة مسألة الطلاق الشفاهي؟ أعتبر هذه المسألة مهينة. ما حدث في معركة الطلاق الشفاهي منتهى المهانة للدولة.

أضاف:  عندما يطلب رأس الدولة ـ رئيس الجمهورية ـ والذي يطالب كثيرا بتجديد الخطاب الديني . أقول عندما يطلب من الأزهر متمثلا في شيخ الأزهر، ويقول: يا جماعة هناك طلاق في البيوت المصرية بأعداد رهيبة، كلنا نشعر به ونعاني منه. فقَدَّم طلبا: أرجوكم، يجب توثيق هذا الطلاق، لحماية البنات التي تضيع في مسألة الطلاق الشفاهي. فاجتمعت هيئة كبار العلماء وقررت رفض الطلب، لأنه لا يوجد في الفقه ما يؤيد ذلك. عن فلان عن فلان عن فلان (العنعنة التي يسخر منها خالد منتصر دائما) لا يوجد توثيق للطلاق. مع أن توثيق الزواج موجود. دونت ملاحظة في آخر البيان، وهي الملاحظة المهينة فعلا: خلكم في السياسة، خلكم في المسائل السياسية والاقتصادية، وليس لكم دعوة بالمسألة الدينية. وقبلت الدولة!  بالبلدي كده: المؤسسة الدينية دبحت القطة للدولة. ومرت المسألة مرور الكرام. ولم نعرف ولم نع دلالاتها بعد.

 

مصر جحر الثعبان.

قدم خالد منتصر بشارتان؛ الأولى في مقر حزب الدستوريين الأحرار بمصر، حيث قال: النور قادم قادم. كان في متاحف أمستردام متحف للتعذيب يشبه القبو. وهو متحف يستعرض كيف كانت أوروبا تتعامل في القرون الوسطى مع المفكرين. وبعد أن نخرج من هذا المتحف الكئيب نشاهد أوروبا النور، وقد عبرت تلك المرحلة المظلمة.

ويؤكد حالما: الفكر الحر العلماني لا بد أنه آت آت.

وقدم بشارته الثانية في تونس؛ حيث قال: كما ولد الإخوان في مصر لا بد وأن تكون نهايتهم في مصر أيضا. ليس لأن مصر الأكبر تاريخا أو سكانا، ولكن لا بد لمن ولد في هذا الجحر الثعباني أن ينتهي فيه أيضا. إنها الأرض التي أنجبته وفهمته جيدا.

العجيب أن بشارة الإبادة هذه تصدر من الرجل نفسه الذي قال في أحد مقالاته من سلسلة عنونها بـ"محاكمة جيل الحلم والكابوس":  "... كان انتقام الثورة (يقصد ثورة يولية 52من الإخوان تحت مظلة الشرعية الثورية انتقاماً بشعاً بعيداً كل البعد عن يد القانون، بل كان خاضعاً لبطش الديكتاتورية الدموى، فخرج إلينا المارد الإخوانجى فى السبعينيات أقوى بأساً وأشد عوداً يغذى موتوره السياسى بنزين الثأر والانتقام".

إنه يعيب على انتقام نظام 1952 من الإخوان، ويطالب نظام 2014 بالانتقام من الإخوان!

 

 

 

تفنيد الوهم

 

 

مدارات الوهم

 

لقد طوفنا بجميع مناحي غرفة عمليات الطبيب المفكر خالد منتصر المختلفة، والتي قالت إحدى المذيعات إنه يقوم فيها بمعالجة الآفات التي تفتك بالمجتمع المصري.

وكنا عرفنا أن أصل هذه الآفات ثلاثة: (الفقر) و(الجهل) و(الفساد).

لكن ـ وكما رأينا سويا ـ كان الرجل عاكفا على معالجة آفة أخرى تماما، ربما يمكن تسميتها بـ(التطرف الديني). وقد يحاججنا فيقول: إنها آفة شديدة الارتباط بالآفات الثلاثة إياها، إنها الآفة الثمرة.

حينها يحق لنا القول إن خالد منتصر لم يفعل غير أنه قرأ العَرَض، ولم يدرس المرض؛ نظر في الظاهر ولم يتأمل الباطن. تفحص الأسباب ولم يمحص المسببات.

وقد دارت قراءاته ودراساته في هذا الموضوع حول مدارات ثلاثة:

الأول: فصل الدين عن العلم.

الثاني: إنكار الإعجار العلمي في القرآن.

الثالث: محاربة البزنس الديني.

وبعد الاطلاع على مخرجات الطبيب المفكر خالد منتصر من منشورات فيسبوكية ومقالات وكتب ولقاءات تلفزيونية وندوات، نرى أن الرجل وَهِم كثيرا، وأوهم أكثر، لأسباب نذكرها بمشيئة الله في الأوراق التالية.

فهيا بنا إلى تفنيد الأوهام.  

 

 

 

الدين والعلم

 

لطالما صَدَّر الطبيب المفكر خالد منتصر فكرة أن رجال الدين الإسلامي في مصر والبلاد العربية هم من يقفون حجر عثرة في طريق التقدم العلمي، وهو ما يؤدي إلى المزيد من تخلف البلاد الإسلامية، وتقدم البلاد الأوروبية.

وطالما أشاد بأوروبا كونها استطاعت تقديم التضحيات في سبيل الحصول على علمانية صحيحة لا يكون للدين فيها أثر معوق للأنشطة العلمية.

لكن؛ ولأن ـ وكما يقول المثل المصري ـ الكدب مالوش رِجلين. كتب خالد منتصر (بذات نفسه) في كتابه "وهم الإعجاز العلمي"، في الفصل المعنون بـ"قنبلة علمية جديدة.. ولد أو بنت تفصيل حسب الطلب". ما يلفت انتباهنا بقوة إلى إن ما يعمل خالد منتصر على ترسيخه من التقدم الأوروبي والتخلف العربي ليس له وجه أصيل على الحقيقة. وأن الدين في أي مكان من العالم حجر عثرة فعلا، لكن ليس في طريق التقدم العلمي، وإنما في طريق الجريمة الأخلاقية التي تصاحب العلم كما تصاحب الحشرة الضارة الأسود. 

كتب خالد منتصر في هذا الفصل يقول: "... أعلن الدكتور أندريه تشيزيل رئيس قسم الوراثة بالمعهد القومي المجري، ومدير سابق لمكتب منظمة الصحة العالمية بالمجر في 2003م (تأمل عزيزي القارئ حداثة التاريخ) عن توصله لتحديد جنس الجنين المكون بالتلقيح الصناعي. وعندما طلب من المسؤولين المجريين السماح له بذلك معللا الأمر أن أسرا مجرية كثيرة ترغب في مولود محدد الجنس مسبقا.... وقد عارضته بشدة الكنيسة الكاثوليكية والتي تتمتع بنفوذ قوي في المجر، قالت على لسان أسقفها أندريه جيولاي: كيف يمكن للبشر أن ينتقوا جنس الطفل قبل مولده، إنها جريمة في حق الرب؛ ويؤكد على نفس المعنى خبير الوراثة د. جابور يوفالوسي: إننا لا نستطيع أن نحل مكان الخالق".

ثم يضيف خالد (بنفسه): "لكن من السلبيات الكبرى لهذه التجارب ما يمكن أن نطلق عليه وأد البنات بالطريقة العلمية، فالهند على سبيل المثال بها 258 مركزا متخصصا في الإجهاض، وبالطبع إجهاض البنات التي يعتبرونها نحسا لأنها تسبب خرابا للأسر الهندية، فهي التي تدفع المهر! ولو نجحت تجارب تحديد جنس الجنين فحتما سيتم القضاء على تاء التأنيث هناك".

ولا نرى بعدا شاسعا بين موقف الكنيسة الكاثوليكية المجرية من تجارب انتقاء الإجنة وموقف الأزهر الرافض لنقل الأعضاء. فالجوهر في الموقفين ليس محاربة العلم، وإنما الحفاظ على الأخلاق.

الكنيسة: ترفض تحكم البشر في تكوين الأجنة.

الأزهر: يرفض تحكم البشر في أعضاء البشر.

والتساهل في الموقفين قد يفتح بابا واسعا جدا لما يحلو لخالد منتصر تسميته بـ(البزنس)، والبزنس اللاأخلاقي بالخصوص.   

أما الأدهى من ذلك ما أورده خالد منتصر في ذات المقالة مؤكدا على فساد إثباتاته الفكرية (الضحلة بالأساس)؛ فها هي الكنيسة المجرية تتدخل بقوة في المجريات العلمية، بعكس ما أثبته في كتابه "فوبيا العلم"، في مقالة عنوانها "العلم والدين"، حيث قال: "... تقتضي الأمانة العلمية أن نعرض للقطات سريعة من تاريخ هذه العلاقة في الغرب، والتي حسمت هناك منذ وقت طويل باقتناع الفريقين بأن لكل منهما مجاله، فالقسيس هناك حدوده جدران الكنيسة لا يفتي في العلم، والعالم هناك لا حدود لطموحه، وليس مطلوبا منه منح صكوك الغفران...".

كما أن التخلف الفكري ليس ملازما فقط لعرب هذا العصر الحديث كما يحاول خالد منتصر إثبات ذلك، بل يلازم التفكير الشعبي المتخلف الأوروبيين والأمريكيين أيضا في هذا العصر الحديث، فيستطرد خالد منتصر في مقالته المعنونة بـ"قنبلة علمية جديدة.. ولد أو بنت تفصيل حسب الطلب" بكتابه "وهم الإعجاز العلمي"، قائلا: "... راجت وصفات السحرة والكهان، والتي ما زالت تستخدم حتى الآن ـ 2005م ـ في أعماق الريف الأوروبي، وأشهرها أكل أمعاء الأرنب وخصيته، والتي اعتقدوا أنها تجلب الصبيان، والمدهش أنه في أمريكا حتى أوائل الستينيات ساد اعتقاد بين الأمهات الحوامل بأن التي تريد إنجاب الذكور عليها أن تضيف إلى غذائها كربونات الصوديوم".

لكنك عزيزي القارئ ستجد أن خالد منتصر يقابل تعنت رجال (الدين المسيحي) إزاء قضايا العلم باندهاش السائح اللطيف الرقيق، فلا يوجه إليهم أي إدانات ولا انتقاصات، ولا يطالب المجتمع الدولي بإزاحاتهم أو إقصائهم، ولا يتوعدهم بحروب البزنس. لن تجده بصددهم قاسيا ولا جافيا عنيفا بمثل الخطاب الذي يواجه به تعنت رجال (الدين الإسلامي). هذا رغم معرفته بأن تاريخ الكنيسة المجابه للعلم والعلماء ملطخ بالدم والعار، بعكس التاريخ الإسلامي الذي لا يكاد يذكر حادثة واحدة تعرض فيها رجل علم تجريبي أو تطبيقي للإقصاء، أو تعرضت حياته للمصادرة بزعم ديني مفاده مخالفة ما جاء به للقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.

 

رجال الدين أصل العلم المادي.

في الوقت الذي يسعى بعض العلمانيين السذج ـ أو هؤلاء العلمانيون المستخدمون لتحقيق أغراض خفية تخريبية بحق أوطانهم الإسلامية ـ إلى نحت صورة ذهنية في تلافيف عقول شعوب هذه الأوطان، يظهر فيها رجال الدين حماةً للتخلف وأعداءً للعلم، فإن علمانيين حقيقيين مخلصين لفكرة الحق والإنصاف يضعون الأمور في أنصبتها، مهما صَبَّ إنصافهم في صالح أفكار الآخر.

من هؤلاء المفكر البريطاني الكبير (اللاديني) برتراند راسل؛ وله كتاب قيم في الموضوع عنوانه: "الدين والعلم"، بترجمة الأستاذ رمسيس عوض. وهو الكتاب نفسه الذي قال خالد منتصر إنه كان مرجعا له بينما يؤلف كتابه "فوبيا العلم".

وهذه مقتطفات من كتابه المذكور يتكلم فيها عن دور رجال الدين في نهضة العلم، بحيث أنك ـ عزيزي القارئ ـ ستندهش كون أشهر النظريات العلمية في الفلك أو الفيزياء أو الأحياء أو غيرها من علوم مادية هي بالأساس نتاج عقل ديني.

فكوبر نيكوس، صاحب نظرية (دوران الأرض)، ظل طوال 23 سنة يكتب كتابه العظيم "حول دوران الأجسام السماوية"، مع ذلك يقول برتراند راسل: "... أجَّل كوبر نيكوس نشر نظريته لفترة طويلة خوفا من لوم الأكليروس له. رغم أنه كان واحدا من الأكليروس".

والإكليروس هذا نظام كهنوتي مسيحي، يُوضَع فيه رجال الكنيسة على درجات.

ونُشِر كتاب كوبر نيكوس في عام وفاته.

أما عن السيد نيوتن مكتشف قوانين الجاذبية يقول راسل: "... لم تتسبب مؤلفات نيوتن في اهتزاز العقيدة الدينية الراسخة، فقد كان نيوتن نفسه رجلا عميق التدين ومؤمنا بأن كل كلمة من الكتاب المقدس موحى بها. والكون كما رآه نيوتن لم يتطور. ويبدو أن آراءه تشير إلى أن خلق الكون تم دفعة واحدة. وافترض نيوتن في تفسير السرعات التماسية للكواكب التي منعتها من السقوط في جوف الشمس أن يد الله هي التي قذفت بهذه الكواكب في البداية وأن قانون الجاذبية يفسر ما حدث بعد أن فعل الله ذلك".

ويضيف راسل في مكان آخر من كتابه: "... فمؤلفات نيوتن حدت بالاعتقاد أن الله هو الأصل في خلق الطبيعة وسن القوانين المنظمة لها، حتى يتوصل هذا الإله إلى ما قصد إليه من نتائج دون حاجة إلى أي تدخل جديد من جانبه فيها، إلا في مناسبات عظيمة مثل تنزيل الديانة المسيحية".

وبعيدا عن كتاب برتراند راسل فإن الكنيسة الأرثوذكسية تباهي مثلا بالعالم الكيميائي الروسي الكبير ديمتري مندليف، صاحب الجدول الذري.

أما مؤسس علم الوراثة وواضع قوانينه الرئيسة فهو راهب نمساوي شهير، اسمه جريجور يوهان مندل.

والأمثلة الدالة على حيوية العقل الديني الفائقة، درجة القدرة على التخيل العلمي ومن ثم التجريب والتطبيق، كثيرة جدا.

 

العلمانيون ضد العلم أحيانا.

لكن راسل (على إلحاده) سيمضي في طريق الموضوعية والإنصاف كما يليق بمفكر حقيقي غايته الحقيقة، لا بمفكر مزور غايته المكايدة والبزنس، فيوجه راسل اللوم للملحدين الجامدين المتزمتين، وكيف أنهم يحاولون تعطيل العلم بأكثر مما تفعل الكنيسة أحيانا، لا لشيء غير المكايدة! (أيوه والله العظيم). فيقول في فصل "التطور" من كتابه "الدين والعلم": "... كان القرن الثامن عشر مشغولا بملاحاة احتدمت بين مدرستين جيولوجيتين هما: المدرسة (المائية) التي نسبت وجود كل شيء تقريبا إلى الماء. والمدرسة (البركانية) التي بالغت في تقدير أهمية البراكين والزلازل. وركزت المدرسة الأولى ـ التي انصرفت دوما إلى جمع الأدلة الخاصة بالطوفان ـ على بقايا الكائنات العضوية المتحجرة الموجودة على ارتفاع شاهق فوق قمم الجبال. ولما كانت هذه المدرسة هي الأكثر أرثوذكسية ومحافظة في العقيدة الدينية فقد حاول أعداء الأرثوذكسية الدينية أن ينكروا أن البقايا المتحجرة والمترسبة هي بالفعل بقايا حيوانات. وبوجه عام كان فولتير (الفيلسوف الفرنسي المعروف) نفسه يتشكك في أنها بقايا حيوانات. وعندما وجد نفسه مضطرا إلى الاعتراف بأنها بقايا من أصل عضوي ذهب إلى أن بعض الحجيج إلى الأماكن المقدسة تركوها وراءهم. ويدلنا هذا المثل على أن الإلحاد الجامد والمتزمت كان في هذه الحالة بالذات يفوق الأرثوذكسية الدينية في اتجاهها المناهض للعلم".

والعلمانيون ضد العلم إذا كان سيعطل المصلحة المادية.

وللتأكيد على ذلك نقتبس هنا بعضا من مقالة لخالد منتصر نفسه، عنوانها: "الكورونا وخطر إهدار الوسوسة العلمية". قال فيها: "صدقت توقعاتى فى بداية وباء الكورونا عندما قلت إن العلاج سيكون ما بين سندان الوسوسة العلمية ومطرقة الاستعجال السياسى، وها هى الأيام تثبت ما حذرت منه منذ البداية، وهو أن الحكومات المتقدمة والمجلات العلمية المحترمة ومراكز الأبحاث العظيمة، تخضع للضغوط وتستعجل و(تتسربع)، وها هى مجلة (لانسيت) العريقة تدخل ساحة الصراع وتستعجل نشر بحث ضد دواء الملاريا الهيدروكسى كلوروكين، وبعدها ينسحب بعض المشاركين، ويتضح أن البحث لم يخضع للضوابط العلمية الصارمة والمطلوبة، والـ(FDA) هيئة الغذاء والدواء الأمريكية هى الأخرى تخلت عن دور الرجل (السقيل) الغلس الرخم، وبدأت تتساهل هى الأخرى و(تطنش) على بعض النقاط التى كانت تقف كالغضنفر لتنفيذها!..".

ها هو الوجه القبيح للعلم الذي يتصدى له الدين، ويكبح جماحه.

 

لماذا نكره العلم؟

سؤال وضعه خالد منتصر في كتابه "فوبيا العلم"، واستطرد يقول: "... أنا لا أفهم سر هذه الكراهية التي باتت تنتابنا نحن المصريين والعرب تجاه العلم والعلماء! هذه الكراهية التي تحولت رويدا رويدا إلى مقاومة كل ما هو علمي، ومحاربة كل تفكير يتبع المنهج العلمي في التفكير، فالعلم في معمله لا يفكر على الإطلاق وهو يجري تجاربه وينظر في ميكروسكوبه ويدون ملاحظاته أنه في وضع تنافسي مع الخالق عز وجل، هذا ليس في مخيلته تماما، بل على العكس فإنه كلما توغل في العلم ازداد تواضعا وازداد ضميرا وإيمانا وفهما".

ونحن نرى أن سؤال الطبيب المفكر خالد منتصر عن سبب كراهية المصريين والعرب للعلم سؤال في غير محله من الأساس. خليق بالمتخلف عقليا فقط أن يطرحه، فالمصريون والعرب يستعملون كل منتجات العلم فائقة الحداثة بمنتهى التفاعل والترحاب، ولو أنهم يكرهون العلم لكرهوا منتجاته، لكنهم في جميع المجالات الحيوية يتعاملون بما وصل إليهم من أحدث الأجهزة في البيوت والحقول والشركات والمصانع والمؤسسات. ولا يعانوا أزمة كراهية للعلم كما يحلو لخالد منتصر الزعم به. لكنهم وبينما يستعملون هذه الأجهزة المتقدمة فإنهم يعتصرون ألما وحسرة كونهم شعوبا عربية ومصرية لا تقل ذكاء عن الشعوب المتقدمة شرقا وغربا، مع ذلك فإنها شعوب تفتقد السياسة الراجحة التي تضعهم على طريق التقدم. تفتقد أنظمة الحكم التي تولي اهتماما جادا بأصول العملية التعليمية في البلاد، وتترك سوس الفساد ينخر في كل قائم تعليمي إلى أن أوشك التعليم على الانهيار تماما. والمصريون خاصة ينعون إلى أنفسهم موت النخبة المثقفة، وبيعها قبل موتها لعضو الضمير الذي كان يمتلكه كل واحد منهم، وانخراطهم في حصد المصالح الخاصة مهما كانت جالبة للمفاسد العامة التي تتهاوى على رؤوس الشعب.

هل يتذكر خالد منتصر فرحة المصريين بخبر إنشاء مدينة زويل التعليمية ؟!

هل فهم من تلك الفرحة العارمة أن الشعب المصري يكره العلم؟

لكن جميعنا يتذكر المثل المصري الشهير: (حجة الكسلان مسح السبورة).

وحجة خالد منتصر ـ وأشباهه من الأطباء الكسالى ـ القاعدين عن إجراء أية بحوث علمية جادة تضيء الأفق العلمي المصري والعربي، والعالقين في مجالات أخرى أبعد ما تكون عن مجالات تخصصاتهم العلمية هي: إن الشعوب العربية تكره العلم!

وكيف تكره الشعوب العربية ـ ذات الغالبية المسلمة ـ العلم، وقد كرم الله العلم في أول آيات القرآن: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.

فكيف تكرهه وهي مأمورة بالتماس سبيله كأحد أهم سبل الإيمان التي تقربها إلى الله؟!

وقد سجل الأستاذ محمد سيد الكيلاني في كتابه المعنون بـ"ترام القاهرة"، والذي صدر في 1968م، جزءا من تقرير اللورد كرومر لسنة 1897م عن الحالة المصرية، الذي قال فيه: "... أن مديري الجامع الأزهر طلبوا 13 أستاذا من أساتذة المدارس الأميرية، وأدخلوا طرقا جديدة للتعليم في الجامع الأزهر من انفسهم. أما الدروس التي يدرسها أولئك الأساتذة فهي الرياضيات والجغرافيا ورسم الخرط. وإذا نظرنا إلى ازدحام التلامذة عفوا واختيارا عليهم لتلقي العلم منهم، حكمنا ان تدريس تلك العلوم في مدرسة اشتهرت باقتصارها على العلوم الدينية فقط يعد نجاحا عظيما".

ها هو الأزهر ممثلا للدين يستدعي العلوم الحديثة ويقوم بتدريسها.

وكنا ذكرنا أن الطبيب المفكر خالد منتصر قد التقى في مراهقته بالمفكر الدكتور زكي نجيب محمود، وهو اللقاء الذي أخبرنا به في كتابه "فوبيا العلم"،  فسأله خالد عن العلم والمنهج العلمي، والفرق بين اليقين العلمي واليقين الديني، وهل هناك تضاد أو حرب بين العلم والدين؟ ولماذا هذه الحرب الوهمية المفتعلة بين العلم والدين دائما ما تنشأ في مجتمعنا المصري والعربي فقط؟ فأجابه د زكي: "الدين ليس علما كما يقولون، بل يقام عليه العلم".

والحرب المفتعلة بين الدين والعلم بحسب فهم خالد هي حرب يشعلها رجال الدين الإسلامي ضد العلم والعلماء، لأنهم يفهمون خطئا أن العلم والعلماء يحاربون الله والدين!

أما أنا فأعتقد اعتقادا جازما أن هناك حربا مفتعلة بين الدين والعلم، لكن من يشعل أوارها ليس رجال الدين، بل رجال ينسبون أنفسهم ـ أو يُنسَبون ـ إلى الفكر والتنوير، لا يقصدون بإشعالها أي مصلحة حقيقية للأوطان العربية وشعوبها.

وقد أجاب الفيلسوف الكبير الدكتور زكي نجيب محمود على هذا المشكل إجابة ساطعة الوضوح: الدين ليس علما كما يقولون، بل يقام عليه العلم.

 لكن خالد منتصر لم يفهم شيئا من الإجابة؛ أو فهم لكنه يتغابى.

وعلى رأي المثل: (عادته واللا هايشتريها!).

ثم لا يرى خالد منتصر ـ وأشباهه ـ حلا لهذه الحرب (المفتعلة) سوى الفصل بين المتحاربَين: الدين والعلم. وإلا أصاب الضرر الدين بأكثر مما أصاب العلم؛ إذ ما أصعب زلزلة اليقين الوجداني للمؤمنين بسبب ما قد يصيبه من أضرار نسبية العلم.

كما يزعم أن ما يدفعه إلى المطالبة بالفصل بين العلم والدين هو رغبته الصادقة في الحفاظ على الإسلام والقرآن.

 

العلم يمهد الطرق إلى القبور.

إذا كان يحلو للبعض وضع الدين مقابل العلم، اعتقادا منه بأن نزع العلم عن الدين سيؤدي إلى كشف التأثير الحقيقي للدين، وحجمه الضئيل باعتباره ليس أكثر من حزمة مشاعر عاطفية مقدسة يجب ألا تتخطى تأثيراتها حدود القلب. فهل يستطيع العلم تحقيق جميع الاحتياجات البشرية مع الأخذ في الاعتبار أن معظم الحاجات البشرية ليست مادية، أي ليست في إطار النظريات، وأبعد ما تكون عن قيد البحث والدراسة بالمقاييس العلمية الجامدة.

في فصل "التطور" من كتاب "الدين والعلم" لبرتراند راسل، يقول المؤلف الفيلسوف الملحد: "... فعندما يقول القس ستريتر إن (العلم ليس كافيا) فهو من ناحية ينطق بمقولة مفروغ منها. فالعلم لا يشمل الفن أو الصداقة أو العناصر الأخرى القيمة والمتنوعة من الحياة. ولكن هذه المقولة بطبيعة الحال تحمل من المعنى أكثر من هذا. فلها في رأيي معنى آخر أكثر أهمية من هذا مفاده أن العلم غير كاف. وهو معنى يبدو لي سليما. فالعلم لا يحدثنا عن القيم، ويعجز عن أن يثبت إذا كان (الحب أفضل من الكره) أو أن (الشفقة أمر مرغوب فيه أكثر من القسوة). إن العلم يمكنه أن يخبرنا الكثير عن الوسائل التي نحقق بها رغباتنا، ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا إذا كانت رغبة ما أفضل من رغبة أخرى...".

فإذا كان العلم لا يتمكن من تقديم إجابات روحية، فهل هو قادر على تقديم إجابات مادية مؤثرة وقطعية؟

هل استطاع مثلا تخليص الإنسان من الأمراض بشكل نهائي؟ أم أنه مجرد طبيب يتتبع المرض تلو المرض محاولا شفاءها، لكن يعجزه القضاء عليها قضاء مبرما.

هل قدم العلم جهازا واحدا بتقنية لا تسبب أضرار استخدام؟

هل يمكن للعلم إنقاذ البشرية من الفناء المستقبلي الذي سيتحتم عليها استقباله بعد ملايين سنين قليلة قادمة؟

في فصل "الغاية الكونية" من كتابه الثمين يجيب برتراند رسل على هذا التساؤل الأخير، فيقول: "... وعلى أية حال فإن الطواف حول الكون مهما تم بمهارة علمية شديدة ليس في مقدوره إطالة الحياة إلى الأبد، إن قانون الديناميكا الحرارية الثاني يخبرنا أن الطاقة بوجه عام تتحول من الأشكال الأكثر تركيزا إلى الأشكال الأقل تركيزا، وأنها في النهاية سوف تتحول إلى شكل يصبح من المحال أن يحدث فيه أي تغيير آخر، وسوف تتوقف الحياة بعد أن يقع هذا وليس قبله، ويضيف جيمس جينز قائلا: الأكوان تشبه البشر الفانين، ففيها نجد أن الحياة الممكنة الوحيدة تمهد الطريق إلى القبر".

والحق أن الإنسان يتطور علميا، ويمتلك التقنيات الساحرة، لكنه يتأخر بالمقابل عن بلوغ السعادة. وكأن العلاقة بين العلم والسعادة علاقة عكسية. وإن كلا منهما يسير في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر.

العلم يتطور فيما يتطور أيضا خوف الإنسانية وقلقها. وعندما تبحث عن الملجأ الآمن تجده في الدين.  

 

الغطرسة العلمية.

فإذا كان العلم ليس بإمكانه تخليص الإنسان من مشاكله، وأقصى غاياته تتبع هذه المشاكل بحلول ليست نهائية. وإذا لم يقدم خدمة واحدة للإنسانية تخلو من مخاطر الاستخدام. ثم يقدمه بعض المتغطرسين من المنادين بفصل العلم عن الدين بزعم أن الدين يعرقل العلم باعتباره القيمة الأثمن التي يجب أن يخضع لها العقل الإنساني، لأنها القيمة القائمة على الحقائق والنظريات الملموسة، لا على الأوهام الأسطورية وأحاديث الخرافة. فأي إيهام هذا الذي تريد جهة ما أن تلبس به على عقول البشر؟

هناك قصة هندية قديمة وجميلة، يمكنها أن تمنحنا تصورا أقرب إلى الصحة حول الإمكانيات الهائلة المزعومة للعلم المغرور، قرأتها في كتاب عنوانه "الإنسان بين العلم والدين" لمؤلفه الدكتور السوري شوقي أبو خليل.

تقول الحكاية:

كان يا مكان، في سالف العصر والأوان، وبعد الصلاة على النبي العدنان، أن أراد شرهام ملك الهند مكافأة وزيره سيسا بن ظاهر لاختراعه لعبة الشطرنج وإهدائها له، فطلب الوزير مكافأة تبدو متواضعة للغاية.

قال للملك: مر لي يا مولاي بحبة قمح توضع على المربع الأول من رقعة الشطرنج، وبحبتين على المربع الثاني، وأربع حبات على الثالث، وثماني حبات على الرابع. وهكذا. بمضاعفة عدد حبات القمح على كل مربع تالي من مربعات اللوحة. مر لي يا مولاي بحبات قمح تكفي لتغطية مربعات الرقعة الأربعة والستين.

أجاب الملك بالموافقة سريعا وهو لا يشك في أن وزيره قد أصابته سذاجة مفاجئة تسببت في أن يطلب هذا الطلب المتواضع جدا.

وأمر بإحضار صاع من القمح رآه كافيا وزيادة لتحقيق أمنية الوزير.

ووضع على المربع الأول أول حبة. وعلى الثاني حبتين. وعلى الثالت أربع حبات. و. و. و..

وعند المربع العشرين نفد الصاع!

وبعد مربعات قليلة تالية استنفد الملك شرهام صاعات كثيرة جدا!

ثم أخذ الفزع ينهش قلبه وهو يجد مخزون مملكة الهند كلها غير كاف لاستكمال ملء ما بقي من مربعات لوحة الشطرنج الأربعة والستين!

إنه يحتاج إلى حبوب قمح عددها: 18.446.744.073.709.551.615 فقط لا غير.

وبحساب عدد حبات القمح في الصاع الواحد مع حساب متوسط محصول العام من القمح في العام الواحد، فإن الرقم المذكور يعادل محصول الهند لست سنوات.

وقيل إنه رقم يعادل محصول القمح في العالم كله لمئات السنين.

فإذا أردت ـ عزيزي القارئ ـ الحصول على تصور يقرب إلى ذهنك مدى حماقة وسذاجة المتغطرسين علميا ضع كلمة (علم)  مكان اسم الملك الهندي (شرهام) في القصة الفائتة.

  

 

   

الإعجاز العلمي في القرآن

 

المقصود بهذا المصطلح الإشارة إلى الدلائل العلمية المؤكدة على أن القرآن كتاب سماوي، بما فيه من آيات أنزلت قبل 15 قرنا من الزمان تقريبا، ولا يمكن نزعها من السياقات العلمية الحديثة.

 

الحرباء تضع السم في العسل.

قبل خمس عشرة سنة نشرت إحدى الصحف الدنماركية رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. فهاجت وماجت الشعوب المسلمة. وكتب الطبيب المفكر خالد منتصر مقالة نشرها بعد ذلك في كتابه "فوبيا العلم" أبدى فيها شعورا إيمانيا رائعا تجاه الإسلام ورسوله كما يليق برجل مسلم غيور على دينه، فقال إن تخلف المسلمين هو أكبر إهانة للرسول الكريم. ولفت الانتباه إلى أن رد اعتبار الرسول يبدأ بتنقية كتب الأحاديث والفقه من الخرافات.  

وكان المسلمون قد دشنوا حملة دولية لمقاطعة البضائع الدنماركية، فوجه خطابه لهم قائلا: "... إذا ما أردتم الثأر للرسول بحق فازرعوا طعامكم واصنعوا احتياجاتكم وبعدها قاطعوا ما شئتم!".

ثم أردف بإيمان عميق: "... محمد عليه الصلاة والسلام سيد الخلق أجمعين، وصاحب الخلق العظيم، وخاتم الرسل والنبيين، سيظل كذلك وستظل قداسته واحترامه وإجلاله، ولن يؤثر فيه مقال هنا أو رسم هناك، ولو اجتمعت صحف العالم للنيل منه ما استطاعت...".

ها هو خالد منتصر يجل ويعظم من قدر الإسلام ونبيه، ما يعني أنه يجل القرآن بدوره إذا كان هو كتاب الإسلام المقدس الموحى به إلى هذا النبي الأكرم.

فتعال عزيزي القارئ أريك إلى أي مدى يجل الطبيب المفكر القرآن.

في فصل سابق من كتابنا هذا ـ "المسحة" ـ أوردنا أن خالد منتصر استدل في كتابه "وهم الإعجاز العملمي" على خطأ فكرة الإعجاز العلمي في القرآن بآراء بعض مشايخ الإسلام الرافضين بدورهم لهذه الفكرة، منها رأي الإمام الشاطبي.

وقد علق خالد منتصر على رأي الشاطبي موضحا استدلالاته التي رفض بها فكرة القراءة العلمية للقرآن. قائلا: "... لم يطلب الشاطبي من القرآن أن يتخطى هذه الحدود العلمية الضيقة، بل وأنكر أن نبحث في القرآن عن معارف وعلوم أعلى من مستوى الأمية التي كان عليها العرب".

خالد منتصر يرى أن الحدود العلمية للقرآن ضيقة بالكاد تناسب مستوى الأمية التي كان عليها العرب!

ثم ساق في كتابه هذا رؤيته الخاصة للقرآن الكريم، في فقرة منه عنوانها: "الإعجاز العلمي خطر على العلم وعلى الدين"؛ فقال: " القرآن كتاب سماوي محكم وشامل، أحدث ثورة وتغييرا شاملا في مجتمع صحراوي بدوي ضيق، ومنه إلى الكون كله، ولكي تحدث هذه الثورة كان لا بد أن يتكلم القرآن مع أصحاب هذا المجتمع البدوي بلغته ومفاهيمه، ومهما كانت هذه المفاهيم أو الأفكار العلمية ساذجة أو مغلوطة بمقاييسنا العصرية، فإنها كانت ضرورة وقتها، وإلا لكنا أمام كتاب ألغازغامض، وليس كتابا دينيا هاديا ولا بد أن يكون واضحا لكي يقنع ويهدي ويرشد".

خالد منتصر يرى أن القرآن يحمل مفاهيم وأفكار علمية ساذجة أو مغلوطة!

وفي فصل آخر من نفس الكتاب عنوانه "التقدم العلمي هو قراءة الطبيعة قبل قراءة النص". يصف خالد منتصر القرآن الكريم بأنه: "... ليس كتابا في الفلك والطب وليس مطلوبا منه ذلك، ولكنه كتاب ديني له منا كل الإجلال والتقديس ككتاب ديني، ولا نطلب منه أن يكون مرجعا علميا وإلا نكون قد ظلمناه".

خالد منتصر يرى أن تعريض القرآن للمحاججة العلمية تظلمه. لأنه الأضعف طبعا!

وهكذا يدس خالد منتصر السم في العسل.

أما العسل فهو كل عبارات التقديس والإجلال التي ساقها ليظهر كطبيب ومفكر يحب الإسلام والقرآن والرسول الأكرم ويحنو عليهم، ويغمرهم بنور عينيه، ويحطهم في (نخاشيش قلبه من جوه).

أما السم فهو ذلك الانتقاص الشنيع من قدر وقيمة القرآن، عندما يصر على تصويره كتابا بالكاد يواكب معارف وعلوم شوية عرب أميين. وأن القرآن (السماوي المحكم الشامل حسب تعبيره) يضطر إلى أن يكون ساذجا، بل ومغلوطا أيضا، كضرورة من أجل أن يستطيع شوية الأميين فهمه. ثم ليس على المسلمين اعتبار القرآن مرجعا علميا وإلا فقد ظلموه، لأنه أضعف من أن يصمد أمام الاستدلالات العلمية.

وسم الحرباء ناقع.

واحذر أن تأخذ ولو لعقة من عسل خالد منتصر.   

 

إنه موريس بوكاي يا سيدي.

لا يكل الطبيب والمفكر خالد منتصر ولا يمل من توجيه الاتهام إلى الدكتور زغلول النجار باعتباره مبدع فرية الإعجاز العلمي في القرآن وفي الحديث.

ولا يكل ولا يمل أيضا من ترديد أن المسلمين انساقوا وراء هذه الفكرة بحماسة لا لشيء سوى إحساسهم العميق بالنقص؛ فهم متخلفون علميا على جميع المستويات، ويستهلكون المنجز العلمي الغربي المتفوق، لكن لإحساسهم الداهم بالنقص فإنهم يأكلون ولا يشكرون، ويتعاملون مع الغرب على رأي المثل: (شحات وأنا سيدك).

فكلما أعلن الغرب عن نظرية علمية سارع المسلمون إلى القرآن، وتعسفوا في تفسير الآيات، ولووا أذرعتها، لتتناسب مع النظرية العلمية الجديدة، فيعلنون استئثارهم بالنظرية لأنها موجودة في القرآن قبل أن يكتشفها الغرب (ابن الهرمة).

وهذا كل ما يفهمه الطبيب المفكر خالد منتصر من مسارعة المسلمين إلى قرآنهم إثر كل إعلان عن اكتشاف نظرية جديدة.

لكن الحق هو أن المسلمين أبعد ما يكونوا عن ابتداع فكرة الإعجاز العلمي في القرآن.

وقد أكد موريس بوكاي في كتابه المهم  "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث" على أن: "... مقابلة نصوص الكتاب المقدس بمعطيات العلم طوال الزمن موضع تفكير الإنسان...". 

أي إنسان، لا الإنسان العربي المسلم فقط.

 

من هو موريس بوكاي؟

ولد موريس بوكاي في 19 يولية 1920م. في إحدى مدن إقليم نورماندي شمال غرب فرنسا. التحق بإحدى المدارس الكاثوليكية وظل يتلقى العلم فيها حتى المرحلة الثانوية.

ثم توجه موريس بوكاي إلى باريس قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية والتحق فيها بكلية الطب، وبانتهاء الحرب كان بوكاي قد أنهى دراسته الأكاديمية، وعمل بمستشفى الجامعة كطبيب جراح أمراض باطنية متخصصا في طب الأمعاء. وعلى سبيل التقدير لتفوقه في الدراسة الأكاديمية سُمِح له بالتدريس أيضا.

في أول الخمسينات التحق بالجمعية الفرنسية للمصريات، حيث درس الهيروغليفية.

وكانت لبوكاي معرفة عميقة بالكتب المقدسة اليهودية والمسيحية، بالإضافة للاهتمام بالمصريات. كما اطَّلع على إحدى ترجمات القرآن الكريم.

وفي عام 1969م التحق بوكاي بمعهد اللغات الشرقية في جامعة السربون لتعلم اللغة العربية. وتخرج بعد أربع سنوات بعد أن تمكن منها. وقرأ القرآن بها قبل زيارته الأولى لمصر في عام 1974م.

وقد مكنته معرفته بسيدة مصر الأولى جيهان السادات من إقناع الرئيس السادات بأن يقوم موريس بوكاي ـ ضمن فريق عمل متخصص ـ بدراسة مومياء من يُعتَقد بأنه الفرعون الذي طارد النبي موسى عليه السلام وغرق في البحر.  

لفتت براعة بوكاي انتباه الرئيس السادات، فقدمه للملك فيصل عاهل السعودية ليكون ضمن الفريق المعالج له.

وفي 1976م أصدر كتابه الشهير "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث"، فأثار به ضجة عالمية بعد ترجمته لأكثر من 12 لغة.

في هذا الكتاب تحديدا وضع موريس بوكاي بذرة ما سمي بعد ذلك بـ"الإعجاز العلمي في القرآن الكريم".

 

الشيخ الضرير والقس العالم.

وإذا كانت لخالد منتصر قصة مع شيخ ضرير جعلته ـ بعد اليفوع ـ يهاجم الإعجاز العلمي في القرآن، فإن لموريس بوكاي قصة مع قس عالم جعلته ـ بعد اليفوع ـ يكتشف ما أسماه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

وكان يا مكان في سالف العصر والأوان أن جلس الفتى موريس بوكاي في فصل الدراسة بالمدرسة الكاثوليكية (تعادل مدرسة أزهرية في مصر)، وكان عمره 15 عاما. فسمع مدرسه القس بيرونيه، وهو عالم جيولوجيا، يتكلم عن اكتشاف رسوم بشرية في أحد كهوف جنوب أسبانيا يرجع تاريخه إلى 15 ألف عاما. وكان بوكاي قد قرأ في كتاب الدين المسيحي بالمدرسة أن تاريخ ظهور الإنسان الأول يعود إلى 4 آلاف عام فقط قبل المسيح.  فأصيب بحيرة دفعته إلى أن يسأل القس العالم عن أي التاريخين أصح: التاريخ الذي قدمه العلم، أم التاريخ الذي يقرأه في الدين؟ فأجابه القس بضرورة ألا يخلط بين العلم والدين؛ ونصحه إذا شعر بوقوع  تعارض بينهما بأن يرجح ما يقوله الدين. لأن الدين هو الحقيقة. لكن بوكاي لم يستسغ نصيحة القس العالم، فإذا كانت الحقيقة العلمية قد تم إثباتها تماما فكيف يجب عليه تصديق ما يخالفها ولو جاء في كتاب الدين؟!

 

الله يتجلى في عصر العلم.

هذا عنوان كتاب يضم مجموعة قيمة من أراء نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض. سأتخير لك منها عزيزي القارئ خمس مقولات لخمسة علماء منهم أراها كافية للاستدلال بها على أن الربط بين العلم والدين ليس مطلبا ملحا من رجال الدين الإسلامي تحديدا ليحققوا به وهما ما لا يستطيعون تحقيقه علما، بل هو شعور صحيح يتمتع به أصحاب الفطر الصحيحة مهما صعد بهم العلم درجات ودرجات.

المقولة الأولى. من مقالة بعنوان: "درس من شجيرة الورد". كتبها ميريت ستانلي كونجدن، وهو عالم طبيعيات وفيلسوف، حاصل على دكتوراة من جامعة بورتون وعضو الجمعية الأمريكية الطبيعية، وأخصائي في الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم والبحوث الإنجيلية. قال: عندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته. ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود. وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته.

المقولة الثانية. من مقالة بعنوان: "النتيجة الحتمية" . كتبها جون كليفلاند كو ثران. وهو من علماء الكيمياء والرياضة. صدر مقالته مستشهدا بمقولة للورد كيلفي، وهو واحد من علماء الطبيعة البارزين في العالم، قال كيلفي فيها: "إذا فكرت تفكيرا عميقا فإن العلوم سوف تضطرك إلى الاعتقاد في وجود الله" . فيؤكد كليفلاند قائلا: ولا بد أن أعلن موافقتي كل الموافقة على هذه العبارة.

المقولة الثالثة. من مقالة بعنوان: "فلننظر إلى الحقائق دون ملل أو تحيز". كتبها ادوارد لوثر كيسيل. وهو أخصائي في علم الحشرات والحيوانات، وأستاذ علم الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو. قال: دراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا بدون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله.

المقولة الرابعة. من مقالة بعنوان: "الحائر الصغير يفكر". كتبها رسل لويل مكسنر. وهو أستاذ علم الحيوان. قال: إن الكتب المقدسة ليست من كتب العلوم، إلا أنها تمس المبادئ الأساسية للعلوم وتشير إليها.

المقولة الخامسة. من مقالة بعنوان: "حقائق من سجل الغابات". كتبها لورنس كولتون ووكر، وهو أستاذ علم الغابات بجامعة جورجيا، وقد استشهد بمقولة لعالم النبات اللامع آساجراي في محاضرة أجراها في جامعة ييل سنة 1880 م، قال فيها: إن ما تنقله العلوم من عالم المجهول إلى عالم الطبيعة لا ينال من الإيمان أو يتعارض معه؛ فالعلوم تسير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه الطبيعة. وعلى ذلك فإن وظيفة العلوم هي العمل على أن تُردّ ظواهر الكون في نشأتها الأولى إلى قدر الله وجلاله.

 

التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث.

هذا عنوان الكتاب القيم الذي أصدره المفكر الدكتور الفرنسي موريس بوكاي، وقد لا تهمنا خلاصته التي مفادها إقراره بأن الكتاب الوحيد ـ من بين الكتب الثلاثة المقدسة ـ الذي لا تتعارض معطياته العلمية مع النظريات العلمية الحديثة هو القرآن، بقدر ما يهمنا الإجابة على هذا السؤال: لماذا يصر المسلمون على الربط بين الدين والعلم؛ ولماذا هم شغوفون بتتبع أثر كل نظرية علمية يعلن عنها في كتابهم المقدس: القرآن؟

والإجابة ببساطة، كما كتبها بوريس بوكاي في كتابه هذا، هي: "... إنه (يقصد القرآن) يبرز للذي يمارس اختباره وتحليله بموضوعية كاملة في ضوء العلم ذاتيته الخاصة به، وهي الاتفاق التام مع النظريات العلمية الحديثة، ويكشف حقائق من النوع العلمي تجعل من المستحيل على رجل في عصر محمد أن يكتبه. وهكذا فإن المعارف العلمية الحديثة اليوم تيسر لنا فهم بعض الآيات القرآنية التي عجز الإنسان عن فهمها حتى الآن".

ويضيف:"... ليس القرآن كتابا هدفه عرض بعض الأنظمة التي تحكم الكون، بل هو في الأساس كتاب ذو هدف ديني. وهذا واضح على الخصوص بمناسبة أوصاف القدرة الإلهية المطلقة التي تستنهض الناس للتفكير في أعمال الخلق، مقترنة إما بإشارات إلى وقائع خاضعة للملاحظة الإنسانية، أو إلى قوانين حددها الله تحكم نظام الكون فيما يخص علوم الطبيعة، وفيما يخص الإنسان. وبعض هذه الأمور سهل الفهم. أما البعض الآخر فلا يمكننا التقاط معناه إلا إذا كانت لدينا معارف علمية ضرورية لذلك".

المسلمون المؤمنون شغوفون بمثل هذه التأكيدات العلمية لأنها تفتح لهم مجلات أخرى لفهم القرآن لم يكن لهم أن يفهموها لو لم يتقدم العلم بكشافه المنير فيضيء لهم عتمتها.

المسلمون المؤمنون شغوفون بهذه الانتصارات العلمية التي يحققها القرآن ليس لرغبة شريرة تستبد بهم لإثبات كفر الغرب بأدوات الغرب العلمية، ولا للاستعلاء على شعوب الديانات الأخرى، وإنما استزادة في إثبات صحة دينهم، وتأكيدا على صدق نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم يمكنهم التوجه بقلب واثق إلى الدعوة لنشر الإسلام في العالم باللغة العلمية التي يفهمها الآخر الآن أكثر من أي لغة إنسانية أخرى.

لقد بلغ هؤلاء المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف القرآن بصفات جليلة، منها أنه: "فيه نبأُ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم". وأنه: "لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه". فذهبوا مع كل اكتشاف علمي جديد ينظرون إليه باعتباره الخبر القادم من بعد، الذي يلفت انتباه العلماء إليه، ويتناقشون به فلا يخلق مع كثرة الرد؛ وأن ما تظهره العلوم كل يوم هو من عجائب القرآن التي لا تنقضي.

هذا هو الهدف الإسلامي من ربط القرآن بالعلم.

هدف واضح يدركه العقلاء والمفكرون الموضوعيون بسهولة ويسر، أما الخالديون المنتصريون فمداركهم منحطة، بالكاد لا تسمو قيد أنملة عن رغبات شريرة مشحونة بقلوبهم السوداء، مرتبطة بمصالحهم الخاصة، ومبنية بالأساس على (المكايدة).

هذه (المكايدة) التي صارت أسلوب الحياة في مصر بعد 25 يناير 2011م؛ للأسف الشديد.

وإذا كانت لخالد منتصر وأشباهه نظرة (كيَّادة) ومشبوهة للقرآن، تعتبره كتابا لا تناسب علومه (البدائية) سوى بدو صحراء عاشوا في قرون تاريخية ماضية بعيدة، فتعال عزيزي القارئ أطلعك على بعض ما كتبه عالم ومفكر بقيمة وقامة موريس بوكاي عن القرآن في كتابه الشهير المذكور عنوانه أعلاه، حيث قال: "... أدهشتني في البداية هذه الصورة العلمية الخاصة بالقرآن إلى حد بعيد، لأني لم أكن أظن أنه يمكن حتى هذا الزمن أن نكتشف في نص مكتوب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا عددا من اليقينيات المتصلة بموضوعات شديدة التنوع ومتفقة تماما مع المعارف العلمية الحديثة. ولم يكن لدي في البدء أي إيمان بالإسلام. وقد بدأت هذا الاختبار للنصوص بموضوعية كاملة وبفكر متحرر من كل حكم مسبق".

 

الإعجاز القرآني في العلم.

بعنوان هذه الفقرة أشكك في دقة ما اشتُهِر بتسميته: الإعجاز العلمي في القرآن.

فمعنى كلمة (معجزة) حسب المعاجم العربية هو: الأمر الخارق للعادة يظهره الله على يد نبي تأييدا لدعوته.

و(المعجزة): ما يعجز الإنسان عن عمله.

والعلم لا يقر الأمور الخارقة إذا لم تفسر بضوابط علمية.

والعلم نشاط إنساني غير معجز.  وعليه لا يصح القول بـ(الإعجاز العلمي).

أما القرآن فمعجزة الإسلام الكبرى لأسباب كثيرة. منها كونه الكتاب الوحيد في العالم الذي لم يتبدل فيه حرف طوال 1450 عاما. هذه وحدها تصلح ـ بمقاييس العلم الجامدة ـ أن تكون أمرا مفارقا للعادة. معجزة.

وبعيدا عن إعجاز القرآن اللغوي والأسلوبي والبنائي؛ جد مؤخرا إعجازه العلمي.

على هذا قد يكون المصطلح الأدق لتوصيف علاقة القرآن بالعلم هو: الإعجاز القرآني في العلم. وليس العكس. فالقرآن سبق بوضع الرؤوس الكبيرة للمواضيع المادية التي سيكون على العلم بحثها وتنظيرها.

لقد خط القرآن المانشيتات، وترك التفاصيل للعلم.

ويباهي المسلم على طول القرون المنقضية ـ وسيظل يفعل ذلك ـ بأن أول ما نزل من آيات القرآن على النبي الأمي محمد، صلوات الله وسلامه عليه، آيات احتوت على أشرف ما قد يعمل عليه الإنسان وبه: القراءة، والعلم، والكتابة بالقلم.

ها هي الآيات العظيمة: بسم الله الرحمن الرحيم. {اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم}.

وكتاب مقدس تحتفي أولى آياته المنزلة بالعلم وأدواته وسبل الحصول عليه لا تجب أبدا المطالبة بتنحيته عن العلم، أو تنحية العلم عنه. وإذا كان القرآن كتاب هداية فالعلم أحد أدوات هداه.

استمع إليه وهو يطالب قراءه المؤمنين بالتفكر في خلق الله، إن في خلق الله لآيات لأولى الألباب.

وما هو التفكر في خلق الله إن لم يكن العلم نفسه!

وما هو التفكر إن لم يكن النظر والتجريب وإثبات كل القدرات الكونية التي سيكتشفها العلم لموجده وخالقه الأعظم، الله جل جلاله؟

وشرب طائر من بحر فعلقت بمنقاره قطرة ماء، فقال النبي لأحد أصحابه إن قطرة الماء التي علقت بمنقار الطائر تساوي علم الإنسان، والبحر علم الله.

ومن الإعجاز القرآني إثباته ـ قبل ما يقارب الـ15 قرنا ـ ما يثبته العلم المعاصر: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.

فالعلم كلما وضع حبات القمح اللازمة لأحد مربعات لوحة الشطرنج تكشَّف له ما هو أشد غموضا وهولا، فيصاب بذهول الملك الهندي شربام.

العلماء هم من يخشون الله حق خشيته. لأن العلماء يفتشون أسرار الكون، فيكتشفون من قدرات الخلق ما يؤكد لهم أن هذا الكون له خالق. هو الله.

ودخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوما المسجد، فوجد مجلسين أحدهما للذكر والآخر للعلم، فذهب إلى مجلس العلم وهو يقول: إنما بعثت معلما.

الارتباط الوثيق بين الإسلام والعلم يجعل المطالبة بالفصل بينهما مطالبة حمقاء، أو مغرضة.

وللإعجاز القرآني في العلوم دور بالغ الأهمية بالنسبة للدعوة إلى الإسلام. حيث يؤكد الدكتور زغلول النجار على أنه: "لو اهتم علماء المسلمين بقضية الإعجاز العلمي (نمشيها الإعجاز العلمي) وعرضوها بالأدلة العلمية الواضحة، لأصبحت من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل".

 

 

 

البزنس.

 

عالم الأعمال والأموال لا مجال فيه للمشاعر. الكلمة الأولى والأخيرة في هذا العالم للأوراق النقدية، والهيمنة للعملات الذهبية والفضية. الأموال تصبح الغاية العظمى التي لا اعتبار معها للطرق والوسائل المستخدمة للحصول عليها. الاحترام فقط للمال، وليس مهما أبدا قيمة البضاعة. أهي نافعة أم ضارة؟ المهم المال.

هذا هو البزنس بتعريفه الصادم.

وهذا ما يزعم الطبيب المفكر خالد منتصر أنه يقاومه بحرب شعواء؛ فرجال الدين ورجال العلم الدينيين حينما يتمسكون بالنظر في النصوص المقدسة نظرة علمية فهم لا يفعلون ذلك إنتصارا للدين، وإنما انتصارا للبزنس. وعليه تجب محاربتهم في (جاتوهاية) عيشهم التي يأكلونها بـ(السم الهاري) في قصور التجمع، ثم يقودون سياراتهم الـ4 by 4 إلى المساجد ليطالبوا الغلابة والمساكين بالصبر والزهد.

ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن ذمم مشايخ الإسلام كالحويني ويعقوب وحسان والعدوي، وغيرهم من دعاة الفضائيات المشهورين. كما لسنا بصدد الدفاع عن ذمم كل المستفيدين بالتجارة الدينية بدءا من طب الأعشاب البديل وحتى الحجامة مرورا بالإسدالات والأنقبة والجلابيب والسراويل القصيرة والطواقي الشبيكة وغيرها. فهي تجارة لا تخالف القانون في النهاية، ومنها ما يدفع الضرائب للدولة التي تسمح له بممارسة النشاط.

لكننا بصدد مناقشة خالد منتصر نفسه عن الوجه الإجرامي في القضية التي يواجهها: ما هي الجريمة بالضبط؟ هل البزنس الديني كله جريمة لمجرد أنه ديني؟ أم البزنس القائم على أفكار وهمية؟ أم ماذا بالضبط؟

فإذا كان يعتبر البزنس الديني كله جريمة فلم لا نسمع له صوتا عاليا جريئا مناقشا للبزنس الديني المسيحي مثلا؟ وهو بزنس ضخم للغاية، له مصانع ومزارع داخل أديرة لها أسوار تحيط بمئات الأفدنة، منها ما يمتلك أجود الأراضي الزراعية. وهي أديرة منتشرة في بر مصر وواديها وصحرائها انتشار مدارس ومعاهد الأزهر في كل نواحي مصر.

البزنس الديني المسيحي يشمل معالجات طبية بالكهنوت أيضا.

ومن البزنس الديني المسيحي ما يتعامل مع الجن التي تسكن البيوت المهجورة، أو التي جرت فيها جرائم أزهاق روح فقطنتها العفاريت. 

لكن خالد منتصر يستطيع أن يرى البزنس الإسلامي ويهاجمه بقلب شجاع، أما البزنس المسيحي فهو معمى عنه، لا تراع عيناه، وإن رأته فلن يتحرك لسانه بكلمة واحدة ضده.

ـ تفتكر لماذا؟

ـ خوفا على البزنس الشخصي لخالد منتصر نفسه.

فهو "مستنور" شاطر، يعرف من أين تؤكل الكتف، وإلا فالقضم دون مهارة قد يفتك بأنيابه وضروسه.

وإذا كان البزنس الديني عموما قائما على أفكار وهمية، فأي فكر غير وهمي، راق، قائم على أسس مادية صلبة وشفافة، يقدمه لنا خالد منتصر؟

إذا كان الطبيب المفكر يرغب في إنقاذ الشعب المصري والعربي من هرطقات رجال الدين العلمية، فما الذي قدمه هو لهذا الشعب بديلا مفيدا؟

الناظر إلى فكر خالد منتصر سيشبهه بذبابة تعيش على مص دم غيرها. إذ أن فكر خالد منتصر لا قيامة له بدون قضية مزعومة أبطالها رجال دين يجابهون العلم!

فكره نبات طفيلي يتسلق شجرة رئيسة.

إنه لا يناقش الآفات التي تخنق الإنسان العربي والمصري، من أول استبداد الأنظمة الحاكمة مرورا بالفساد المالي والإداري الحكومي وحتى انهيار الصحة والتعليم وضياع الزراعة والصناعة. لا يناقش مسببات الفقر ولا مسببات الجهل ولا مسببات الفساد. لم يناقش قضايا خطرة مثل قانون الطوارئ والاعتقالات الجائرة وتصفية بعض المتهمين بقوات إنفاذ القانون دون محاكمات قانونية. لم يناقش الوضع في سيناء ومعضلة المواطن السيناوي المضغوط بين مطرقة الإرهاب التكفيري وسندان الجيش المصري. إنه حتى لم يتناول الاعتداء الوحشي على جمال خاشقجي مثلا، ولا أي اعتداء على أي صحافي أو صحفية.

لا يناقض قضايا الحريات السياسة.

لم ينتصر لمعارضة ولم يوجه لوما لرئيس جمهورية يجلس على عرشه.

إنه يستطيع لوم جمال عبدالناصر والسادات، لكن بعد موتهم.

ويستطيع تقريع حسني مبارك، ولكن بعد عزله.

ويستطيع تخوين محمد مرسي رئيسا ومحبوسا، ولكن لأنه يأمن من الاعتقال.

لكنه يمدح الرئيس عبدالفتاح السيسي حاليا، وكيف أنه الرئيس الذي يطالب بتجديد الخطاب الديني، والحق أنه لا يمدحه إلا لأنه الرئيس الذي يقبض على مقاليد الحكم، والذي إن أغضبه بثمة معارضة سيلقي به بعيدا عن ونس الفضائيات ونغنغة الدولارات.

أما مواجهة التيارات الإسلامية، ومصادمة الأفكار التي من قبيل (الإعجاز العلمي في القرآن)، والمألسة على تصرفات فردية لبعض الممثلين والممثلات غير الراغبين في تنفيذ مشاهد عاطفية ساخنة احتراما لتعاليم الدين ولأصول الأخلاق، وجميع هذه الأمور الفارغة، فهو عندها ناشط همام، يدبج المقالات تلو المقالات، ومن المقالات يصنع كتبا، ويقدمها لجوائز خليجية مثل جائزة (حرية الصحافة) من نائب رئيس وزراء البحرين في حفل يحظى برعاية ملك البحرين نفسه.

وقد تسلم خالد منتصر الجائزة بضمير شارب ويسكي مخدر تماما، بحيث لم ينتبه إلى المفارقة المخزية التي بإمكان كل عين حرة ملاحظتها بسهولة. جائزة لحرية الصحافة في بلد عربي لا يؤمن فعلا بحرية الصحافة.

لكن لو لم يتمكن خالد من تخدير ضميره فسيقتله، فالرجل ليس مستعدا لأن يفلت من بين يديه (بزنس) تزيد قيمته عن 100 ألف دولارا أمريكيا.

ولنا أن نتساءل عن حجم ضخامة البزنس المنتصراوي إذا كان الرجل ـ حسب المعلومات التي يضعها على واجهة موقعه الإلكتروني ـ يشغل منصب رئيس قسم الجلدية والتناسلية بهيئة قناة السويس, ومقدم ومعد فقرات طبية لعدد من البرامج التلفزيونية في عدد من القنوات الفضائية،  والمسئول عن قسم الثقافة الجنسية بموقع إيلاف، وكاتب بجريدة المصري اليوم وبعض الصحف والمجلات الأخرى. وهو لا يفعل في جميع هذه الأعمال ـ عدا الوظيفة الأولى ـ غير مهاجمة رجال الدين الإسلامي والبزنس الديني!

ذهب. ياقوت. مرجان. واللهم لا حسد.

ولك أن تقرأ شهادة خالد منتصر على نفسه ـ وعلى أشباهه أيضا ـ كتبها وهو لا يشعر بأنه يكتب دليل إدانته بيده؛ وكان يستعرض مع الدكتور الفيلسوف زكي نجيب محمود ـ في لقاء مُتخيَّل ـ تلك الأصنام التي عبدها المصريون والعرب المعاصرون من النخبة، فأودت بالأوطان العربية إلى التخلف. فكتب خالد في "فوبيا العلم" يقول: هناك صنم لم تذكره المراجع، وهو صنم الجماهيرية والرواج، فالمثقف الذي عليه دور التنوير وانتشال الجماهير من براثن الخرافة يبحث عن القبول الاجتماعي والرواج الجماهيري، وهذا الصنم موجود بالذات في وسائل الإعلام، فتجد الضيف أو المذيع أو الكاتب يبتعد عن منطقة الألغام الفكرية الصادمة، وينشد الأمان ودفء القطيع وحب العامة والتفكير السائد، ويخاف أن يصدم أو يوقظ أو يقلق أو يسبح بعيدا عن التيار، أو يغرد خارج السرب، حتى لا يُنفَى وحيدا في صقيع التجاهل.

وأي صقيع الآن أشد تجاهلا وزمهريرا من صقيع تجاهل مدينة الإنتاج الإعلامي المصرية، والنشاط الثقافي الخليجي!

 

اضحك تاني مع خالد منتصر.

وحتى تكتمل لديك عزيزي القارئ صورة الطبيب المفكر خالد منتصر أبلغ اكتمال، سأتركك مع جزء من المقالة الأولى في سلسلة مقالات كتبها تحت عنوان "محاكمة جيل الحلم والكابوس"، يوجه فيها إدانة للجيل الذي استيقظ على صوت طرقات ثورة 23 يولية 1952م وأغمى عليه بضربة 5 يونية 1967م، حيث كتب يقول: "... الحلم كان ممتدا ورحبا بلا ضفاف، وعاليا بلا سقف شأن كل الأحلام الثورية، والكابوس كان مخيفا ومرعبا شأن كل الكوابيس الصادمة التى يصحو ضحاياها على بيوتهم، التى كانوا قد ظنوها من فولاذ فإذا هى من قش وكرتون، تنهار فيموتون وهم نيام مخدرون أسفل أنقاض حلمهم القديم.

لماذا لم يدرك هذا الجيل أن نذر الهزيمة فى الأفق؟! لماذا عاش المثقفون منهم أسرى تمجيد النظام غناء وعزفاً ورقصاً وتهليلاً وتوزيعاً للأمنيات بتماثيل رخام على الترعة والأوبرا، الترعة التي لم تغادرها قواقع وديدان البلهارسيا، والأوبرا التي صارت مسرحا لأناشيد التخدير القومي؟!

لماذا خرج اليسار من المعتقل الذى شهد تذويب الجثث بحمض الكبريتيك وجلد الأحياء بكرابيج الثيران، خرج إلى حضن السلطة متحداً معها ناعماً فى ظلها بكراسى القيادات الصحفية والثقافية، حل حزبه من أجل عيون الثورة متناسيا أنها هي التي أحرقته واغتصبته وأهانت آدمية قياداته وأعضائه في السجون والمعتقلات حيث كانت العقارب هي أرحم الكائنات بهم؟!

هل هو ذهب المعز الذى سلب عقول المثقفين، أم سيفه هو الذى أرهبهم؟". 

أقول لخالد منتصر: بل هو ذهب المعز يا رجل. (البزنس) يا رجل.

 

 

الخاتمة

 

يمكنني الاعتقاد بأن الفكرة الأصولية ليست خاصة بالعرب والمصريين فقط، والربط بين الكتاب المقدس والعلم هو رغبة حميمة تجيش في قلوب كل المنتمين إلى الديانات في كل العالم. وليست قاصرة على عصر دون عصر. لا يتسم بها زمن قديم دون زمن جديد. ليست لصيقة بالماضي دون الحاضر، بل وتلوح في أفق المستقبل أيضا. إذا بقيت مئات آلاف المعابد والكنائس والمساجد على وجه الأرض ستبقى فكرة ما يسمونه بالإعجاز العلمي في الكتب المقدسة. لأن العلم ببساطة شديدة كشاف امين لمعجزات الدين. وسيظل المؤمنون يتمسكون بهذا الكشاف، لا كما يزعم خالد منتصر بأنه رغبة الشعب المتخلف في إنه (يتلزق) في العلم بأبسط السبل، ولكن إشباعا لقلوب حتى المتحضرين المتقدمين الآملين في صدق عقائدهم.

ها هي أمريكا التي تسافر سفنها الفضائية إلى مختلف أنحاء الكون، وأكثر الحضارات المعاصرة تقدما علميا وتقنيا تستعيد روحها الديني في أوقات كثيرة؛ ولن نستشهد في ذلك إلا بما كتبه خالد منتصر نفسه في مقالة له بعنوان "علمانية أمريكا وعلمانية أوروبا". قال فيها: " لم أندهش من مشهد الرئيس ترامب وهو يرفع الإنجيل فى الشارع أمام المظاهرات، فأنا من المؤمنين بأن علمانية أمريكا ليست كعلمانية أوروبا خاصة العلمانية الفرنسية، وأن الأصولية فى أمريكا ما زالت هى الأصل، وما زالت ترقد على صدر العلمانية محاولة خنق أنفاسها، بداية من إقحام اسم الله على ظهر الدولار، حتى مشهد ترامب بالكتاب المقدس، مروراً بمظاهر كثيرة سنتحدث عنها فيما بعد، منها موقف كثير من الولايات الأمريكية ضد نظرية التطور التى صارت بديهية لدى كل مجتمع علماء البيولوجيا المتخصصين مثلها مثل نظرية الجاذبية، ومنها انتشار المدارس الأصولية المسيحية فى أمريكا، وانتشار البرامج والقنوات الدينية الكثيرة.. إلخ".

ولن نجد أقوى من الدلائل الدينية إقناعا عند الاختلاف، حتى أن خالد منتصر نفسه الذي لا يني عن المطالبة بفصل العلم عن الدين، معتبرا العلم هو صاحب القواعد الأقوى المشيدة على الأدلة الأدق قياسا ووزنا، عندما أراد دحض بعض الآراء الدينية استعان بالآراء الدينية أيضا (وسبحان الله على تناقض الجماعة دولا)!  

اقرأ ما كتبه في "وهم الإعجاز العلمي"، في فصل عنوانه "التيار المتخلف ينتصر في معركة زرع الأعضاء"، حيث يقول: "... وأخيرا فلنناقش بهدوء مسألة الموت الإكلينيكي هذه، أو بتعبير أبسط هل الموت هو موت القلب كما يقول المعارضون أم موت المخ كما يقول المؤيدون؟

وفي البداية سنستند إلى تعريف للموت لن يختلف عليه المؤيد ولا المعارض، وهو أن الموت هو (مفارقة الروح للجسد) وبما أن الروح هي أمر غيبي لا يعلمه إلا الله ولا يستطيع طبيب أو فقيه أن يدعي معرفته، فلسنا نملك إلا الحديث عن العلامات الدالة على هذه المفارقة، وقد اعتمدت على ثلاث قضايا فقهية استطعت من خلالها إثبات أن الروح تتعلق بجذع المخ وليس بالقلب.

والقضية الأولى هي نفخ الروح في الجنين قبل الولادة، ففي سورة (السجدة) يقول المولى عز وجل {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه}. وأيضا في سورة المؤمنون {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة قخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين}. وقد فُسِّرت أنشأناه خلقا آخر في جامع العلوم والحكم بأنها نفخ الروح، وقد أيدت الأحاديث النبوية أن نفخ الروح يتم بعد كل هذه المراحل. أنظر الحديث الذي رواه عبدالله بن مسعود عن هذه المراحل، كل هذا يثبت أن نفخ الروح يتم بعد تكون الجنين أي بعد 120 يوما، وهذا الرقم هو الذي أقره المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي والذي عقد بمكة المكرمة حين كان يناقش قضية الإجهاض، وبما أن القلب يتكون وينبض منذ اليوم الثاني والعشرين بعد التلقيح، إذن لا يمكن أن يكون مرتبطا بالروح ونفخها، ولكن الاتصالات والتشابكات ما بين جذع المخ وما فوقه من المناطق المخية العليا فهي التي تتكون بعد الـ 120 يوما، أي أنها هي المرتبطة بنفخ الروح وليس القلب.

وفي القضية الثانية استدل خالد منتصر بحديث للرسول عليه الصلاة والسلام، قال فيه: "لايرث الصبي حتى يستهل". وكيف أن بعض الفقهاء لا يعتبر المولود حيا إلا إذا صرخ، حتى ولو كان يتنفس أو يبول. ما اعتبره خالد أنهم ربطا للروح بالإدراك والإحساس، وهي وظائف مخية، لا قلبية.

وفي القضية الثالثة استدل بقول الفقهاء في أن حركة المذبوح لا تدل على الحياة، برغم أن المذبوح في اللحظة يملك قلبا نابضا ودورته الدموية تعمل، ما اعتبره خالد قصدا إلى أن الإدراك والحس هما شرط الحياة، وهما وظيفتان من وظائف المخ، لا القلب.

ولا يجد خالد منتصر غضاضة حتى في الاستشهاد بأقوال العلماء (الإرهابيين) إذا لزم الأمر؛ حيث استشهد بفتوى للشيخ القرضاوي (والعياذ بالله) أجاز بها قتل الرحمة.

وقتل الرحمة هو أن يقوم الطبيب بفصل أجهزة الإعاشة عن الميت إكلينيكيا.

وهي الفتوى التي توصل إليها القرضاوي استنادا إلى خلاف فقهي أساسه هذا السؤال: أيهما افضل: التداوي أم الصبر؟ فكان منهم من قال إن الصبر أفضل استنادا إلى حديث الجارية التي كان يصيبها الصرع فذهبت إلى الرسول تسأله أن يدعو الله لها بالشفاء من مرضها، فكان أن خيرها بين الصبر ودخول الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء فتشفى. فاختارت الصبر. وذكر القرضاوي أن كثيرا من الصحابة كانوا يرفضون التداوي. وذكر أيضا أن أبا حامد الغزالي أفتى بأن ترك التداوي أفضل، وعليه أفتى القرضاوي بفتواه التي نصها، حسب ما أورده خالد في كتابه: "إذا كان تعريض المريض للعلاج بأي صورة كانت شربا أو حقنا أو تغذية بالجلوكوز ونحوه، أو توصيلا بأجهزة التنفس الصناعي أو غير ذلك مما وصل إليه الطب الحديث، يطيل عليه مدة المرض ويبقي عليه الآلام زمنا أطول، فمن باب أولى ألا يكون ذلك واجبا ولا مستحبا، بل لعل عكسه هو الواجب أو المستحب".

يستطرد خالد: "... فهذا النوع من تيسير الموت في رأي القرضاوي ليس قتل رحمة لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب، إنماهو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، وهو أمر جائز ومشروع، وبالنسبة لبقاء المريض ميت الدماغ على أجهزة الإنعاش فهو من وجهة نظره تكلفة باهظة وقلق للأهل لا طائل من ورائه".

 

ويضيف خالد محاولا المداراة على تناقضه وخيبته (عندما يدعي مفارقة الدين للعلم ثم يستدل بنصوص دينية من أجل التنظير العلمي): ".. المدهش أن الشيخ القرضاوي قد توصل لهذه الفتوى التقدمية الصادمة للبعض عن طريق أكثر الأفكار تخلفا ورجعية، وهي فكرة (ترك التداوي أفضل)...".

ودعني عزيزي القارئ ألا أطيل عليك أكثر من ذلك لأدل لك على مدى علمية الطبيب والمفكر خالد منتصر، فربما يكون طبيبا جيدا، ولم يسبق لي الكشف عنده لتأكيد ذلك أو نفيه، لكن بالتأكيد، وبعد أن أعملنا مجساتنا الفكرية وأدوات حفرنا الثقافية طوال هذا الوقت وبكل هذا الجهد، فقد اكتشفنا إلى أي مدى كم هو المفكر خالد منتصر ضحلا وسطحيا.

إنه كما نطق صديقي ثقيل اللسان: خائب مبتسر.

وإذا كنا ننهي كتابنا هذا فليس أفضل من أن ننهيه بإشارة برتراند راسل الذكية، والتي أوردها في كتابه "الدين والعلم"، في فصل "التطور"، قال: "... عندما تظهر كل النتائج المنطقية المترتبة على أي تجديد فإن هذا قمين بأن يصدم العادات صدمة هائلة من شأنها أن تجعل الناس يرفضون التجديد في مجمله، في حين أنه إذا طُلِب إلى الناس أن يخطو خطوة واحدة كل عشرة أو عشرين سنة، فإن هذا من شأنه أن يغريهم بالسير في طريق التقدم دون إظهار مقاومة كبيرة.

إن عظماء القرن التاسع عشر لم يكونوا ثوريين في مجال الفكر أو السياسة، ولكنهم كانوا على استعداد للدفاع عن الإصلاح عندما أصبحت الحاجة إلى الإصلاح واضحة، هذا المزاج الحذر في استحداث التجديدات جعل القرن التاسع عشر يتميز بالسرعة الفائقة في إحراز التقدم".

كما يرشدنا راسل إلى الطريقة التي يجب أن تتعامل بها أفضل العقول العلمية إزاء انتشار الخزعبلات. فيقول في الفصل الرابع، المعنون بـ"الطب وعلم الشياطين والجان": "... أفضل العقول العلمية لم تشأ أن تنشغل بالخزعبلات الشائعة لسببين: أولهما أن أصحابها أرادوا الانصراف إلى أداء أعمال أكثر إيجابية من مجرد التفكير في الخزعبلات. وثانيهما أنهم كانوا يخشون إثارة العداوة ضدهم. وقد أثبتت الأيام أنهم كانوا على حق.

ولنا هنا أن نختم بمقولة موريس بوكاي في كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث"، حيث يقول موجها اللوم للمتغطرسين علميا: "... كلمنا تقدمنا في مضمار المعرفة، وبخاصة فيما يخص الجوهر، كلما كانت البراهين في صالح وجود الخالق. ولكن بدل أن يتواضع الإنسان أمام بعض الوقائع، فإنه ينتفخ كبرياء وغرورا. إنه يخيل إليه أن من حقه الاستهزاء بكل فكرة عن الله، بل والسخرية بكل ما يصادفة، إذا كان يحجزه عن تحقيق متعته وشهوته. هذه هي الآن ظاهرة المجتمع المادي الغربي في كامل تفتحه.

 

تم بحمد الله

       

 

   

 

 

  

 

    

    

     

 

 

 

 

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة